“الحياة تبدأ بعد الستين”، جملة تمنح كثيرا من الطمأنينة للمستقبل القادم بعد الوصول لسن التقاعد، الذي يكون في أغلب الوظائف مع الاقتراب للعقد السادس من العمر، لكن هل بالفعل هناك حياة بعد الستين؟ هل يمنحنا التقاعد ما عجزت عنه سنوات الانشغال؟ وكيف تتغير طقوسنا المعتادة نحو عائلاتنا، ونبدأ في تحقيق الأحلام المؤجلة، من سفر واطلاع ومشاركة؟

هل يمنحنا التقاعد سبيلا جديدا للحياة؟ هكذا كانت تتوقع أميمة محمد، 67 عاما، بعد رحلة عمل استمرت أربعة عقود في شركة حكومية للدواء، عاشت أميمة جُل حياتها وهي تؤجل الأحلام لحين خروجها إلى المعاش، كانت تخطط للسفر والتجوال مع زوجها وأبنائها في مدن كثيرة داخل مصر وخارجها.

علاقتها المهتزة مع زوجها هي الأخرى كانت تنتظر سنوات المعاش كي تعيد لها زهوها القديم، ومع إخوتها وأصدقائها وعلاقاتها السطحية معهم، كل هذا كانت تنتظر أن يصلحه التقاعد.

هكذا كانت تأمل مديرة التخطيط، لكن الأمور جرت خارج توقعاتها، فرحل الزوج تاركا إياها تكمل المسيرة وحيدة، مع ذكريات علاقة هشة كانت تأمل في إصلاحها، وأبناء فارقوها زواجا وعملا، فصاروا لا ينتظرون إجازتها السنوية، وأهل وأصدقاء صارت لهم حياة اختارت هي في وقت سابق أن تكون بعيدا عنها، فلم يعودوا إليها عندما أرادت مرة أخرى، وعرفت حينها أن الحياة لا تبدأ بعد الستين، وإنما غالبا يبدأ الاكتئاب.

بالنمط ذاته تبدأ الدورة، يتقاعد الشخص، ويسير كل شيء على ما يرام، ثم تنقلب بعض الأمور أحيانا، فيقع بعض المتقاعدين -خاصة الرجال- في حالة من الاكتئاب، وهو ما تناولته دراسة بعنوان “اعمل لفترة أطول تعش أصح” أعدها غابرييل سالغرين، وخلص فيها إلى أن حالات الاكتئاب المبلغ عنها ذاتيا، ترتفع بنسبة 40% في سنوات التقاعد الأولى.

وعلى الرغم من الخطوط العريضة التي تجمع بين حالات الاكتئاب في هذه المرحلة، فإن هناك بعض الاختلافات في الأسباب وإدراك المشكلة وعلاجها.

خيبة الأمل هي الشعور الذي يصيب المتقاعدين بعد مرور بعض الوقت على حياتهم الجديدة، فغالبا ما تكون التوقعات والخطط كلها غير صالحة للتنفيذ على أرض الواقع، لأن الخطط لا يمكن أن تبدأ في لحظة التقاعد، بل قبل سنوات من الخروج النهائي من العمل، حسب الدكتور مدحت.

التخطيط لفترة التقاعد بعشر سنوات سابقة فترة كافية لتتواءم الخطط المأمولة مع الواقع المتغير، ففي كل عام ستجد أن هناك بعض الظروف قد تغيرت، يفقد بعضها صلاحيته، بينما يستجد غيرها، يؤكد جاد الرب.

ويرى أن التخطيط للتقاعد لا يشمل الحسابات المالية فقط، لكنه يشمل -أيضا- دائرتك الاجتماعية، فعليك التفكير مليا في من يشاركك تلك السنوات، هل سيكون في قائمة أصدقائك من هم على استعداد للوجود في دائرتك حينها؟ هل لديك صديق يمتلك الحماسة والقدرة على الفعل تطمح في أن يشاركك تلك اللحظات؟

فقدان القيمة ليس ما يؤدي للاكتئاب في سنوات التقاعد فقط، لكن فقدان الأحبة وخسارة الأصدقاء الذين رحلوا في تلك المرحلة العمرية كذلك، فيبدأ لدى الشخص المتقاعد شعور باقتراب النهاية، ويبدأ في تعداد خسارات عمره، وفي بعض الأحيان ترتفع معدلات الطلاق في السنة الأولى بعد التقاعد، فاكتشاف الشريكين لبعضهما في هذه المرحلة، وتحمل طرف للآخر ربما لا يكون سهلا في فترة التقاعد، إضافة إلى عدم الشعور بالأهمية لدى الأبناء.

العمل التطوعي

هناك 4 نصائح قادرة على إمدادك بالطاقة للاستمرار بعد التقاعد، أولها أن تعيش في ظل هدف بديل، قادرا على منح وقتك أهمية مهما كانت مساحته وأهمية الهدف ذاته، والعمل التطوعي على قائمة الأهداف التي تحقق للمتقاعد هذه الأهمية، وتمنحه الشعور المستمر بالعطاء.

الحياة الصحية بعد التقاعد

الحياة بصحة جيدة هي أكثر ما يعطي الإنسان رغبة في الحياة واستمرارها، لذا لا تغادر الصالة الرياضية، فالتمارين الرياضية تزيل التوتر وتمنحك السعادة التي تبحث عنها، والطعام الصحي المتنوع مهم -أيضا- في هذه المرحلة من حياتك.

في أحيان كثيرة تقتصر علاقات الأشخاص بعد التقاعد على الأحفاد، في محاولة منهم لاستمرار الشعور بقيمتهم، لكن لحياة أفضل فإن تعزيز العلاقات وتنويعها في تلك المرحلة من أهم الخطوات لمحاربة الاكتئاب.

محاولات تجديد العلاقة الزوجية وانعاشها ستمنحك -كذلك- قدرا أكبر من الطاقة للحياة الجديدة، وكذا العلاقات مع الأبناء ومحيط الأقارب، الذي ربما فقدته في ظل وعثاء العمل.

احرص -بالإضافة إلى ذلك- على مقابلة الأشخاص الجدد سواء في النادي أو العمل التطوعي، أو الشباب الأصغر سنا في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، فهؤلاء من الممكن أن تكون مرافقتهم سبيلا لتحسين مزاجك وربطك بمتغيرات العالم من حولك.

إرث وأثر

ما يتبقى بعد الموت ليس المال الذي سيرثه الأبناء فقط، لكن للعلم أثر وللمعاملات والثقافة، وصنع أثر باق بعد الموت يخلد اسمك في ذاكرة العالم هو من أهم المنجزات في تلك المرحلة، فيمكنك إرساء مؤسسة لنقل خبراتك في مجال تخصصك بشكل تطوعي.

أو إذا كنت من هواة جمع التحف واللوحات فيمكنك التبرع بها لأماكن عامة، وكذلك إذا كنت صاحب مكتبة منوعة وزاخرة بأمهات الكتب، أما إذا كنت تعتقد أن حياتك وأسرارها قد تهم الآخرين، فيمكنك البدء في كتابة مذكراتك، ربما تساعد أحدهم على النجاة مما لم تنج منه أنت.