UTV - ثقافة

رسالة الإنسان هي إعمار الأرض.. من هذا المنطلق يخوض الكاتب المصري خالد عزب في كتابه الأحدث “العمران: فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية” غمار محاولة جسور لسبر أغوار علم العمران منطلقا من أسسه العقائدية ليبين الطابع الشامل لهذا النشاط الإنساني وارتباطه الوثيق بكل جوانب نشاط الإنسان في هذا العالم.

يهيئ عزب القارئ ذهنيا في مقدمة الكتاب لقراءته بتأن، ويقول “أنت هنا عزيزي القارئ ستذهب معي في هذا الكتاب إلى علم آخر لم تألف في قراءتك… هنا سنكتشف سويا آفاق هذا العلم ومعطياته، إنه علم العمران”. وتأكيدا لأهمية المحاولة يفتتح كتابه بتنبيه إلى “الحقائق المغيبة” في هذا العلم.

يقع الكتاب في 270 صفحة من القطع المتوسط موزعة على خمسة فصول ومذيل بخاتمة ومدعوم بعدد من الصور والرسوم التوضيحية، وهو يفتح للقارئ الباب واسعا للنظر إلى التراث العمراني في الحضارة الإسلامية من منظور آخر يستحثنا على التدقيق في الأسس التي قام عليها هذا التراث. وبشكل أكثر تحديدا يصف علم العمران بأنه “علم الحياة الدنيا في الحضارة الإسلامية”.

والكاتب شديد الوضوح في المقدمة في تلخيص المهمة التي يقدم عليها، ويوضح أن علم العمران نشأ في الحضارة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري، وينبه إلى أنه بصدد بناء هذا العلم على أسس راسخة “في بطون الكتب التراثية” وأن هذه الأسس “مغطاة فلم ترها البصائر” وأن مهمته هي وضع تعريف وأسس لهذا العلم ليكشف عن الفلسفة التي يعمل من خلالها هذا العلم ومجالات وفضاءات ممارسته.

انشغال خالد عزب بقضية العمران لا يقتصر على هذا الكتاب الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، فقد سبق أن كتب في الموضوع كتبا ودراسات كثيرة، مما يجعل الكتاب حلقة أخرى في مشروع بحثي كبير لباحث مختص في الآثار ومثقف موسوعي له حضوره البارز والمؤثر على الساحة الثقافية المصرية والعربية بل والدولية من خلال المناصب التي شغلها في فترات مختلفة في مكتبة الإسكندرية.

وعن ارتباط الكتاب بما سبقه من جهود، يقول عزب إنه فلسفة لموضوع كتاب “فقه العمران” الصادر في عام 2012 والحائز على جائزة أفضل كتاب في الوطن العربي في عام 2014، وإنه محاولة لفهم فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية.

ونظرة على تقسيم الكتاب تكشف عن النهج الذي اتبعه عزب في محاولته. ففي الفصل الأول يبحث في ماهية العمران ويقيم ارتباطا قويا بين مفهوم العمران ومفهوم مركزي آخر في الفكر والفقه الإسلاميين هو مفهوم “العدل”.

وينتقل في الفصل الثاني إلى سبر الفلسفة التي يقوم عليها العمران بربطها بقيم الإتقان والإبداع والجمال، ويربط الإتقان بفكرة الضمان ويقدم نماذج للإبداع، نماذج من خلال تأمل المقرنصات وأشكال الطبق النجمي المميزة لفن العمارة والزخارف الإسلامية باعتبارهما من الفنون المميزة للتراث العمراني لهذه الحضارة.

ويقدم في الفصل الثالث أدوات هذا العمران ويلخصها في الربط بين العمل والعلم، ويركز في موضوع العلم على مسألة مناهج التفكير وطرائقه ومسألتي التوثيق والتراكم. ويأخذنا في الفصل الرابع إلى أطر العمران مركّزا على السياسية أو ما أسماه فقه العمران ليبرز مجموعة من القيم المحورية التي ارتبطت بهذا العلم يحددها في الحق والعُرف وقاعدة “لا ضرر ولا ضرار” الفقهية المعروفة دون أن يغفل أهمية الزمن في هذا العلم.

وفي الفصل الخامس والأخير يبحر في فضاء العمران ومجالاته من خلال الربط بين العلم والعمل في عدد من الحرف والصناعات والوظائف التي يؤديها العمران في حياة البشر.

والمؤلف حريص أشد الحرص على إبلاغ القارئ بالقصد من هذا الكتاب من خلال ما سطره للتعريف بالكتاب على الغلاف الخلفي أو في الخاتمة التي جاءت مقتضبة في صفحتين لكنها شديدة التركيز، وفي الأمرين كان الشاغل هو التأكيد على ارتباط الجانبين، الروحي والمادي، في العمران والربط بين الإيمان والعمل.

يقول المؤلف في التعريف بالكتاب إن “العمران أدى إلى نظام دائم الفاعلية في الكون بشتى مظاهره الروحية والمادية، وهو ما أفضى إلى منظومة فكرية التحمت بالواقع عبر فضاء العمران”.

لكنه لا يغفل عن مفارقة مهمة في هذه الحضارة، إذ يشير إلى أن “فلسفة العمران أتاحت للإنسان تطبيق معاييرها دون أن يدرك ذلك” وأن الإيمان المطلق بالله هو قائده وموجهه في هذا المسعى إذ أحيا هذا الإيمان فيه قيم الإتقان والإبداع والعمل والإيمان بأن عمارة الأرض هي وظيفة الإنسان الأولى وهو ما أدى إلى نشوء علم العمران وفلسفته كما يُرى في بطون الكتب وفي التراث الإسلامي المادي والشفهي.

وهو يرى أن اتساع الهوة بين تطبيق هذا الإطار المثالي والابتعاد عنه كان سببا رئيسيا لانهيار حضارة العمران وضياع السبق والمجد.

لكنه كان في الخاتمة أكثر وضوحا في تبيان أهمية المعرفة والعلم وربطهما بالتدبر وإعمال العقل والبصر والتبصر لمعرفة “من أين أتى الإنجاز الحضاري في علم الحياة.. علم العمران”. فالبصر والبصيرة والفطنة والعبرة مترادفات تقود إلى الإدراك الذي يقود بدوره من التدبر إلى الابتكار والإبداع.