لم تغرِ الهجرة المتواصلة للأدباء العرب من الأنماط الأدبيّة الأصيلة كالقصة والشعر إلى الأنماط المعاصرة كالرواية القاص والشاعر السوري نجيب كيالي الذي لا يزال مثابرا منذ عقود على إبداع القصة وتبيان مدى مرونة هذا النمط الأدبي وقدرته على التكيّف مع مختلف قضايا العصر وأكثرها تعقيدا، وتأكيدا لهذا الاعتبار تأتي مجموعته القصصية الجديدة “دير القصائد”.
تتألّف مجموعة دير القصائد -الصادرة حديثًا عن دار موزاييك للدراسات والنشر بإسطنبول- من 26 قصّة يعالج فيها الأديب السوري نجيب كيالي موضوعات ذاتيّة واجتماعيّة وسياسيّة ووجوديّة مختلفة بأساليب متنوّعة يختارها القاص لتناسب كلّ حكاية من حكاياته على حدة.
وتتميَّز قصص دير القصائد بشاعريّة السرد ورهافته، وقدرتها على إشراك القارئ في صناعة معناها من خلال انفتاح دلالاتها على مستويات عدّة تصبح معها كمرآة لوعي القرّاء بمكنوناتها والعالم من حولهم.
الفرن وعبور بين النجوم.. مأساة الهجرة والمصير المشترك
يستهلّ نجيب كيالي مجموعته بقصّة “عبور بين النجوم” وهي حكاية صاحب المِعطف السوري الذي قرّر أن يفترش شمسيّة (سطح) دكّان السيّد فاضل في إحدى دول الجوار السوري، ليتمكَّن من مراقبة النجوم وهي تسبح في الفضاء بحثًا عن عروسه التي قضت بقصف جوّي في سوريا.
وفي أحد الأيّام يعود السيّد فاضل ليجد صاحب المعطف مات متجمّدًا على شمسيّة دكّانه، وبعد العزاء يجد فاضل نفسه مشدودًا بطريقة غريبة ليعود إلى المكان ذاته الذي مات فيه صاحب المعطف ويفترش تلك الشمسيّة ويراقب النجوم، وهو ما فعله فاضل في نهاية القصّة.
تحاكي هذه القصّة مأساة الإنسان السوري المُهجَّر في الموت تجمّدًا على حدود بعض الدول العربيّة والأوروبيّة، ولكنّها ترمي إلى ما هو أبعد، فيقول نجيب كيالي للجزيرة نت “إنّها بمنزلة رنَّة جرس صغيرة، فيها تنبيه إلى المصير المشابه الذي قد ينتظر هذه البلدان الموجودة في المنطقة، ومن المهم ملاحظة أن صاحب الدكان بعد موت الرجل العاشق متجمِّدًا على سقيفة دكانه وجد نفسَهُ مشدودًا بقوة غريبة ليستلقي مكانه! نرجو الله أن تخيب الظنون السيئة التي تخامرنا، وأن تنعمَ كلُّ بلاد العرب بالسلامة، والأمان، والرقي، والسعادة”.
وعن مأساة الإنسان المهاجر أيضًا يكتب كيالي قصّة “الفرن” التي تدور أحداثها في عام 2070 في إحدى الدول الأوروبيّة بعد نشوب حرب بين دولتين أوروبيتين، وتصوّر القصّة عماد الشاب السوري وهو خائف إلى حدّ بعيد من الوقوف على الفرن لشراء الخبز، ومع نهاية القصّة نكتشف أنَّ جدّة عماد قد قضت في قصف في الحرب السوريّة قبل 6 عقود وهي تبتاع الخبز من الفرن.
وهي إشارة واضحة إلى حمولة الذاكرة المورَّثة جيلًا بعد آخر وآثار رواسب صور الدمار والموت السلبيّة في الشعوب عبر الزمن المديد وليس إبان المأساة فحسب. وبعد استشهاده بمنجزات علم النفس التحليلي والفلسفة الألمانيّة يؤكّد نجيب كيالي ذلك بالقول إن “الذاكرة بحمولتها البشعة والوحشية تُورَّث، وإنّ ما يحدث في عدد من البلدان العربية اليوم من حروب وفظائع وويلات وانتهاكات ستصل آثاره السلبية إلى أجيال لاحقة بعد 50 سنة، وربّما أكثر بكثير”.
الحجر واللغة الرمزية.. حين تفرض القصص مزاجها على الأديب!
كتب كيالي عشرات الكتب بين الشعر والقصّة للأطفال والكبار قبل أن يكتب هذه المجموعة، لذلك يبدو للقارئ مع اجتيازه القصّة إثر الأخرى أنّه أمام أديب لا يركن إلى لغة أو أسلوب موحَّد ولا يتوجّه إلى شريحة عمريّة دون الأخرى، وإنّما يتّبع في اختيار الأسلوب الحكمة الشائعة “لكلّ مقام مقال”، وفي نسج القصّة على الانفتاح الدلالي حتّى لتغدو القصّة للقارئ كمرآة لوعيه بالواقع وعناصر الحكاية، فلا يرى فيها إلّا ما أملاه عليه وعيه.
وبذلك يمنح القارئ متعة التفكُّر والتأمّل في مضامين القصص ومراميها، وعن ذلك يقول كيالي للجزيرة نت “حين أكتب القصّة لا أدخل إلى سوبر ماركت الأزياء الأسلوبية، وأنتقي من هناك أسلوبًا بعينه، لأنّه يساير الموضة الأدبية، أو أنتظر من استعماله أن يحقق إدهاشًا أو رواجًا. إنَّ القصّة تقريبًا هي التي تفرض مزاجها علي، وتختار أسلوبَها، وأنا أهتمّ بمزاج قصصي وأحترمه، كما يفعل الأب مع رغبات بناته المدللات. فاختيار القصّة لأسلوبها هو عملية داخلية شبه سرّية يقوم بها اللاوعي، ويعكس هذا الاختيار في آخر الأمر ثقافة الكاتب، ومزاجه اللغوي، وكُوده الأسلوبي الخاص”.
ومن تلك القصص التي تحضر فيها الرموز كمفاتيح للقراءة قصّة “الحجر الناطق” وهي قصّة ذلك الحجر الذي يلتقيه ساطع -مُحبّ الحقيقة- فينطق له بقصص القهر والاستبداد على مرّ العصور، ولمّا يحين موعد الحكاية الأكثر أهمّية عن شخص عظيم يختفي الحجر فجأة، ويتحوَّل ساطع نفسه إلى حجر أبكم.
وعن دلالة تلك الحكاية يقول كيالي “لعل دلالة اختفاء الحجر، وانقلاب ساطع في خاتمة القصة إلى حجر أخرس هي أنَّ هناك من يحارب الحقيقة بشراسة، ويحرص كلَّ الحرص على بقاء المتداول الزائف الملوث بالكذب! لكننا نتشبث بالتفاؤل، ونأمل.. نظلّ نأمل أنَّ النور سيظهر ذات صحوة، وأنّ الحقائق -وهي قوت العقول- ستنجلي، وبها ستكون بداية جديدة”.
القصيدة المغتالة وعالم التفاهة
في القصّة التي سُمّيت المجموعة باسمها “دير القصائد” يسلّط كيالي الضوء على تراجع دور الشعر في حياة الإنسان مع تعاظم نمط العيش الاستهلاكي الذي يسيطر على البشر وتوجّهاتهم، فيصوّر مجموعة من القصائد التي تصعد إلى الجبل هربًا من فرمان إعدامهنّ وهنّ حزينات على ما حلّ بالبشر والشعر معًا.
وعلى الجانب الآخر يصوّر حياة الناس الاستهلاكيّة وكيف بات الحبّ جافًّا محصورًا بالأهواء الجنسيّة، وأصحاب رؤوس الأموال لا يفكّرون إلّا بزيادة ثرواتهم بوضع خطط لتعقيم النساء وقتل كبار السنّ عبر اللقاحات وغيرها، ومع نهاية القصّة نجد أنّ ثورة شاملة يقودها الشباب صارت على الأبواب فيعود الأمل مجدّدًا إلى الشعر والمشاعر الإنسانيّة.
وعن هذه الرؤية يقول كيالي للجزيرة نت “القصيدة التي هي رمز المشاعر والأحلام والمحبة مغتالةٌ في قصتي (دير القصائد) لأنها مغتالة في واقع الحياة المحيط بنا فوق كرتنا الأرضية المنكوبة بالأهواء والمطامع، وكم أتمنى لو أن الدول في كل ركن من هذا العالم تولي عناية خاصة فائقة لا لتشييد العمائر فقط، وإنما للتربية العاطفية والوجدانية لدى أفرادها، وإعلاء كلّ ما من شأنه أن يبني جسورًا بين القلوب والأرواح، ومن أهم ما يحقق ذلك الشعر بقصائده العظيمة، وكذلك الفنون الراقية. وقبل منظمة الأمم المتحدة ليتنا نحققُ منظمةَ الأفئدة المتفاهمة المتحابّة المتحدة”.
أمّا في قصّة “الجزيرة الصغيرة النائية” فيبدو كيالي أكثر مباشرة في طرحه، فيصوّر للقارئ جزيرة نائية يبحث حاكمها عن طريقة لجعل البشر أكثر ميوعة، وبعد الاجتماعات والمشاورات مع مستشاريه وحاشيته يقرّر قلب الأغاني من تلك الجميلة التي تُطرب إلى أخرى تافهة تدفعُ الناس إلى الرقص، ثمّ بعد ذلك يتلاعب بقصّات الشعر التي أصبحت كما يصفها كيالي في كتابه “حلاقة المسامير الفضّية، وقصّات الجرن”، لتنسحب هذه التغييرات بمرور الوقت على كلّ شيء في الجزيرة وتنال من كلّ الشرائح العمريّة.
وما الجزيرة في قصّة كيالي سوى أنموذج عن عالمنا المعاصر الذي أصبحت فيه كلّ الأشياء تنبع من “نظام التفاهة” الذي تشكّل السياسة ركنًا أساسيًّا من أركانه. وعن ذلك يقول للجزيرة نت “هذه القصّة من النمط الساخر، والسخرية فيها ذاتُ مسارين: المسار الأول باتجاه السلوك البشري الذي بات في قسم كبير منه متّسمًا بالتفاهة، بل إنه أحيانًا يفتش عنها بعطش، كأنها جوهرةٌ فريدة أو كنزٌ مكنوز! والمسار الثاني باتجاه الحكّام عامة، وما تتسم به سياستهم في الأغلب من تفاهات، بعضها يتخطّى حدود الجنون. والحقيقة أنّ المسارين يلتقيان، ولا غربة بينهما، فمنبع التفاهة الأول في العالم سياسي اقتصادي، وتتبعه تجلياتها الاجتماعية، والثقافية، والفنية، وما يتصل بالأزياء وغيرها”.
ولا تقلّ الـ21 قصّة المتبقّية في مجموعة “دير القصائد” عمقًا وأهمّية عن القصص التي أتيحت لنا مناقشتها في هذا المقال، وتتناول قضايا إنسانية ووجودية وفنّية نجح نجيب كيّالي في جعلها جديرة بالقراءة.