وُلدت الطفلة نايا خلال الحرب الدائرة حاليا في قطاع غزة بعملية قيصرية في الساعة الواحدة ظهر يوم السبت الماضي الموافق 11 نوفمبر تشرين الثاني في جنوب القطاع.

احتضنت سماح قشطة (29 عاما) مولودتها الجديدة وتفحصت وجهها الصغير وعينيها السوداوين، ثم ما لبست أن أجهشت بالبكاء لأنها شعرت بالخزي لأن “الظروف أجبرتني أن أنا ولدت في وقت أنا مش قادرة أوفر لها اشي”.

وعلى الرغم من أنها تعمل قابلة، تعاني سماح من النقص الحاد في احتياجاتها مثل معظم الأمهات الأخريات في غزة. وجاءت إلى المستشفى ومعها عدد قليل من الحفاضات وعلبة من حليب الأطفال وزجاجة من المياه لإعداد الحليب.

وبعد وقت قصير من ولادتها، كانت سماح ترقد على سرير بجانب النافذة مع طفلتها نايا عندما تعرض منزل مجاور للقصف في غارة جوية.

وقالت سماح “خوفت ومسكتها وضمتها عليا… كنت خايفة في أي لحظة حسيت إن يصير قصف عليا وإنو بس حسيت إنو أضم بنتي علينا من كتر الخوف”. وعلمت فيما بعد من ممرضات المستشفى أن هناك أشخاصا ماتوا في الهجوم.

وبدأت الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) في السابع من أكتوبر تشرين الأول عندما هاجم مسلحو الحركة بلدات إسرائيلية، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 1200 شخص، معظمهم مدنيون، بحسب البيانات الإسرائيلية.

وردا على ذلك، فرضت إسرائيل حصارا على غزة ومنعت الوقود والغذاء والكهرباء عن السكان. ويقول مسؤولو الصحة بقطاع غزة الذي تديره حركة حماس إن أكثر من 12 ألف فلسطيني، 70 في المئة منهم من النساء والأطفال، استشهدوا جراء القصف المتواصل الذي تشنه إسرائيل جوا وبرا وبحرا.

وتقول إسرائيل إن حربها مع حركة حماس، التي تصنفها الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب جماعة إرهابية، وإن الحصار شبه الكامل الذي تفرضه على القطاع يهدف إلى منع وصول الإمدادات الحيوية إلى المسلحين. وتحكم حماس قطاع غزة منذ عام 2007.

وفي بيان لرويترز، قال الجيش الإسرائيلي إن مسلحي حماس يواصلون مهاجمة إسرائيل من أنحاء متفرقة من قطاع غزة، متهما مقاتلي الحركة بالاختباء وسط المدنيين.

وقال الجيش في البيان إن إسرائيل “عازمة على إنهاء هذه الهجمات، ولذلك سنضرب حماس حيثما كان ذلك ضروريا”.

ويئن سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة جراء هذا الصراع. ويعيش السكان المدنيون تحت الحصار بعد أن أغلقت إسرائيل الحدود منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول. أما معبر رفح الحدودي مع مصر فهو مُغلق في معظم الأوقات. وقال مصدران أمنيان مصريان إنه تم السماح لما يزيد قليلا على سبعة آلاف شخص بدخول البلاد.

وكانت سماح تتابع أخبار الحرب من الممرضات من داخل المستشفى الذي وضعت فيه مولودتها. ويشعر السكان في أنحاء القطاع بالذهول من الأحداث التي تشهدها مدينة غزة، وهي المدينة الرئيسية في القطاع. وتحاصر الدبابات الإسرائيلية مستشفى الشفاء هناك. وذكر الأطباء في المستشفى أن المرضى يموتون وأن الحضانات متوقفة عن العمل.

ويقع مستشفى الهلال الإماراتي للولادة حيث وضعت سماح مولودتها في مدينة رفح على الحدود مع مصر. ويقع المستشفى على بعد نحو 30 كيلومترا جنوبي مدينة غزة و20 كيلومترا جنوبي خط الإجلاء الذي أعلنته إسرائيل. ويشعر الناس هنا أيضا بأنهم محاصرون حيث تتعرض مدن مثل رفح للقصف الجوي.

ولدى رويترز فريق مكون من ثمانية صحفيين وعائلاتهم في غزة. وكانوا يقيمون في البداية في مدينة غزة قبل أن ينتقلوا الآن مثل مئات الآلاف من سكان غزة جنوبا إلى مدينة خان يونس على بعد نحو ستة كيلومترات من رفح. وفي مستشفى ناصر بمدينة خان يونس حيث تعمل سماح، التقى صحفي من رويترز بالقابلة لأول مرة بينما كانت تساعد نساء أخريات على الولادة. وبالقرب من قسم الولادة تقع المشرحة حيث يسجل المدير سعيد الشوربجي الموتى.

وتستند هذه الرواية عن المواليد والوفيات في خان يونس إلى تقارير أوردها صحفيو رويترز من داخل مستشفى ناصر إلى جانب الملاحظات اليومية للفريق في المدينة.

 

* تحت الحصار في خان يونس

يعود تاريخ مدينة خان يونس إلى القرن الرابع عشر، وتضم مخيما كبيرا للاجئين يحمل الاسم نفسه. وأُقيم المخيم في البداية لإيواء الفلسطينيين الذين فروا عند إعلان قيام إسرائيل عام 1948، وتتولى الأمم المتحدة إدارته. وتمتد البلدة والمخيم معا من السياج الحدودي مع إسرائيل حتى قرب البحر المتوسط.

ويُسمع دوي انفجارات ليلا في المدينة بعضها بعيد والبعض الآخر قريب. وفي النهار، يُسمع صوت طنين مستمر صادر عن محركات الطائرات المسيرة الإسرائيلية التي تحلق عاليا في كل مكان.

ويوجد نقص خطير في الإمدادات جراء الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة ومنعها توريد الوقود والكهرباء ومعظم المواد الغذائية إليه. كما يعاني القطاع من شح المياه. وقال برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أمس الجمعة إن المدنيين يواجهون “خطر الموت جوعا قريبا” بسبب نقص الإمدادات الغذائية.

وعادة ما يعيش في مدينة خان يونس نحو 440 ألف شخص، لكن هذا العدد يُعتقد أنه زاد للمثلين الآن. وفي 13 أكتوبر تشرين الأول، طلبت إسرائيل من أكثر من مليون شخص ممن يعيشون في شمال القطاع الانتقال إلى الجنوب. وقال مسؤولون أمريكيون إن الجميع استجاب للتحذير باستثناء نحو 300 ألف شخص، وإن كثيرين منهم جاءوا إلى خان يونس.

وتقول إسرائيل إنها سوف توسع عملياتها في الجنوب في إطار ملاحقتها لحركة حماس. وأسقطت الطائرات الإسرائيلية أمس الجمعة منشورات طالبت فيها سكان بعض الأحياء الشرقية في خان يونس بترك أماكنهم، وهو الأمر الذي قد يجبر العديد من العائلات التي جاءت من الشمال على النزوح مرة أخرى.

ومن بين النازحين عبلة عوض، وهي امرأة مسنة سبق وأن عاشت معاناة التهجير تحديدا في عام 1948 عند قيام إسرائيل.

كانت عبلة في الخامسة من عمرها عندما غادرت عائلتها قرية حليقات التي أعلنت إسرائيل ضمها لأراضيها لاحقا.

وقالت عبلة، وهي تفترش الأرض الرملية أمام خيمتها “بتذكر زي ما شردونا ذاهيك (قبل ذلك) شردونا ونشرد. حملونا في الأكياس أهالينا وكنا صغار وودونا على غزة. والله زي الأيام هاذي”.

وانتقلت عبلة إلى خان يونس قادمة من مخيم جباليا للاجئين الواقع شمال قطاع غزة.

ويستمر العمل في سوق الخضار في خان يونس لكن الأسعار زادت للمثلين. وعند المخابز يصطف المئات في طوابير من الفجر حتى غروب الشمس. وينادي التجار على مجموعة من السلع لكن بأسعار باهظة بدءا من علب التونة إلى فرش الشعر والثياب والملابس الداخلية والمنظفات. ويتسبب ارتفاع الأسعار في وقوع مشاحنات باستمرار.

وتنتشر أكوام من القمامة وأسراب من الذباب في كل مكان. وتسببت ندرة المياه ونقص مرافق الصرف الصحي في تفشي أمراض جلدية. وظل كثيرون دون استحمام لأسابيع وكانوا يعانون من طفح جلدي واضح.

ويملك عدد قليل من السكان المحظوظين ألواحا شمسية فوق منازلهم تساعدهم على سحب المياه الجوفية من المضخات وشحن هواتفهم المحمولة. ويضطر كثيرون آخرون إلى الوقوف في طوابير منذ الصباح الباكر لملء حاويات صغيرة بالمياه من الآبار القريبة.

وعلى الرغم من وقوع خان يونس إلى الجنوب من “خط الإجلاء” الذي حددته إسرائيل، فإنها لم تنج من هجمات الطائرات والصواريخ الإسرائيلية يوميا. ودكت الغارات بنايات بأكملها. ويقول مسؤولو الصحة المحليون إن 1300 شخص إجمالا استشهدوا في منطقة خان يونس منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول.

وتواصل حماس وحليفتها حركة الجهاد الإسلامي كل بضعة أيام إطلاق رشقات صاروخية صوب إسرائيل.

عمليا، لا يوجد مفر أمام السكان إلا من يحملون جوازات سفر أجنبية. وتظهر بيانات الأمم المتحدة أنه حتى قبل اندلاع الحرب، فإن أقل من 50 ألف شخص شهريا كان يسُمح لهم بالخروج، نحو 35 ألفا إلى إسرائيل و12 ألفا إلى مصر، وذلك بعد موافقة السلطات الأمنية الإسرائيلية. لكن كثيرين لم يغادروا غزة قط.

في الأعوام القليلة الماضية، خرجت احتجاجات متفرقة في غزة ضد حماس لفشلها في تحسين الظروف المعيشية المتدنية. واليوم، لا يوجد سوى قليلين مستعدين لمناقشة سياساتهم مع الصحفيين. ويقول أغلبهم إنهم يخشون أن تستهدفهم إسرائيل.

وقالت سوزان بسيسو، وهي أمريكية من أصل فلسطيني عمرها 31 عاما وموجودة في القاهرة بعد السماح لها بالخروج من المعبر، إنها تعارض قتل “أي مدني أو أي شخص على الأرض”، بما في ذلك الإسرائيليون الذين قتلتهم حماس في السابع من أكتوبر تشرين الأول. لكنها أيضا قالت إنه لا يمكن تبرير قتل إسرائيل الآلاف ردا على هجوم حماس. وذكرت “فهذه الحرب ليست على حماس إذن. إنها على المدنيين في غزة”. وتابعت “يصبون جام غضبهم على المدنيين والأبرياء”.

ويقول يان إيجلاند الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين إن إسرائيل ملزمة بفتح حدودها من أجل حماية الأبرياء. وقال لرويترز “إنه أبشع شيء ممكن ألا تكتفي إسرائيل بفرض حصار شامل على السكان المدنيين الذين يتعرضون للهجوم ويعيشون في مرمى النيران، بل تحرم النساء والأطفال المحاصرين في منطقة صغيرة من الفرار عبر الحدود”.

لكن إسرائيل لا توافق على ذلك. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لبرنامج (ميت ذا برس) الذي تعرضه شبكة (إن.بي.سي) في 12 نوفمبر تشرين الثاني إن الإصابات بين المدنيين هي “مثلما يحدث في كل حرب مشروعة، وهي أحيانا ما يسمى ‘بالأضرار الجانبية‘. وتلك طريقة أخرى للقول بوجود خسائر بشرية غير متعمدة”.

وقال الجيش الإسرائيلي في بيانه لرويترز إن إسرائيل تقصف أهدافا عسكرية وفقا للقانون الدولي وإن قواته تتخذ “جميع الاحتياطات الممكنة” مثل إصدار تحذيرات محددة لتخفيف الضرر الذي يلحق بالمدنيين. وأضاف أن الهجمات لا تتم إلا “بعد تقييم فوري يفيد بأن الأضرار العرضية المتوقع أن تلحق بالمدنيين وممتلكاتهم ليست مفرطة مقارنة بالمكاسب العسكرية المنتظرة من الهجوم”.

وعلى صفحته على فيسبوك، ينشر مستشفى ناصر، المستشفى الرئيسي في خان يونس وأكبر مستشفى في جنوب قطاع غزة، “إحصائيات طوفان الأقصى” -وهو الاسم الذي اطلقته حماس على هجومها- وهي قوائم يومية بأسماء “شهداء” هذه الحرب.

وتابعت رويترز المستشفى بين الأول و11 من نوفمبر تشرين الثاني وأجرت زيارات متكررة وراقبت وصول القتلى والجرحى. وفي تلك الفترة، سجل المستشفى 139 قتيلا في المجمل جراء الغارات الجوية، 54 منهم من الرجال (39 بالمئة) و42 من النساء (30 بالمئة) و43 من الأطفال (31 بالمئة).

وفي السابع من نوفمبر تشرين الثاني، شاهد صحفي من رويترز وصول جثث جراء هجوم وقع في خان يونس في حوالي السادسة والنصف صباحا بالقرب من مكاتب البلدية. وقال أقارب إن تسعة أفراد من أسرة واحدة، من بينهم ثلاثة فتيان، استشهدوا

.

ونجت فتاة واحدة فحسب عمرها 16 عاما. وكانت في حالة اضطراب شديدة منعتها من الحديث. ولم يتسن لرويترز التثبت من سبب تدمير إسرائيل المبنى السكني الذي كانت تعيش فيه الأسرة أو إذا ما كانت قد أصدرت تحذيرا. وأُحضرت 26 جثة إجمالا إلى مستشفى ناصر في ذلك اليوم، من بينهم 11 امرأة وعشرة أطفال.

 

* إنهاك في المشرحة

يدير سعيد الشوربجي (50 عاما) مشرحة مستشفى ناصر. ويعتمد على متطوعين يعملون بواقع ثمانية في كل نوبة عمل. وتبعد المشرحة 30 مترا فقط عن قسم الولادة.

ويصل قبل السادسة صباحا، أي قبل ساعة من وصول أي شخص للتعرف على الجثث. وأمضى صحفيو رويترز عدة أيام يراقبون الشوربجي خلال العمل ويشهدون وصول القتلى الذين سقط معظمهم جراء قصف خلال الليل.

ويعاني الشوربجي، وهو أب لست بنات وولدين، من الحرمان من النوم. وقال “بتنام وأنت متوتر والنوم متقطع هذا بيرهقك أكثر”. فقد يستيقظ خلال ست ساعات 40 مرة مع كل مرة يدوي فيها القصف. وتابع “ما فيش نوم طبيعي. شو بدك تعمل؟ أنت ما إلك غير أنك تنام وتستني رحمة ربنا”.

عاشت أسرة الشوربجي في غزة لأجيال قبل قيام دولة إسرائيل في 1948. واليوم، وحسب الأمم المتحدة، يُصنف أربعة أخماس سكان غزة على أنهم “لاجئون” فلسطينيون من أسر فرت أو أُكرهت على ترك منازلها حينئذ.

وتدير منظمة خيرية المشرحة وتمولها تبرعات محلية أخرى. وتقدم المشرحة خدماتها بالمجان. ويحدد الشوربجي وطاقمه هوية القتلى ويكفنونهم ويرسلونهم إلى المسجد لتُصلى عليهم صلاة الجنازة ثم إلى قبورهم. ويُسمح لأفراد الأسرة الأقربين بدخول المشرحة لتلاوة القرآن وترديد الأدعية وتقبيل جثث أحبائهم. ويقف الأقارب الآخرون خلف حواجز. ويهتف بعضهم في غضب “الله أكبر” أو “شهيد”.

ويتجمع الناس أحيانا لأداء صلاة الجنازة قبل أن يحملوا الضحايا إلى مثواهم الأخير بدلا من إجراء الشعائر مثل المعتاد في أحد المساجد.

وغالبا ما يهب المتطوعون لأداء هذه المهمة حينما لا يكون ثمة أفراد من الأسرة باقين على قيد الحياة أو حينما تفوق أعداد الشهداء والجرحى سعة المساجد. ووسط كل هذه الفوضى، تمتزج أصوات باعة يعرضون الشاي والقهوة والسجائر بأسعار مرتفعة مع الضوضاء المتصاعدة. وغالبا ما تنشب مشادات على الموارد المحدودة مثل الماء والغذاء.

ويتولى الشوربجي كثير من المهام بنفسه. وقال إن حجم العمل كثير إلى حد يدفع زميله أحيانا إلى مساعدته في شرب الماء في ظل انشغال كلتا يديه الملطختين بالدماء بالتعامل مع الجثث. وفي أثناء حديثه، جُلبت جثة رجل في الخمسينيات من عمره مغطاة بالتراب ووجهه ملطخ بالدم.

وصُممت ثلاجات حفظ الموتى في المشرحة لاستيعاب 50 جثة. لكن في بعض الأيام تعج بمثلي ذلك الرقم وتُوضع الجثث على أرضية المستشفى. وخارج الثلاجات توجد مغسلة لتغسيل الجثث. وثمة غرفة جلوس أيضا بها شاشة تلفزيون تعرض قناة الجزيرة باستمرار.

ولا يتمثل التحدي في التعامل مع عدد الجثث التي تصل فحسب، فالمشرحة تعاني من نقص الوقود في غزة وتطلق نداءات من أجل المساعدة في حمل الشهداء إلى المسجد وإلى المقابر.

وإيجاد مكان في المدافن أمر عسير وخطير، فقد قُصف المدفن الرئيسي في البلدة كثيرا إلى حد دفع كثيرين إلى حفر قبور بأنفسهم في المدينة وفي مخيم اللاجئين.

ويقول الشوربجي إن الحرب تثير مشاعر جارفة وتوترا شديدا يعصفان بالمبنى مع دخول المكلومين. ولا يستطيع بعضهم تقبل حقيقة أن القصف الإسرائيلي شوّه “أحد الأحبة ممن كان يرتدي يوما أجمل الثياب”. وتغطي الأتربة بعض الأقارب جراء التنقيب في الأنقاض بحثا عن ناجين.

وقال الشوربجي إن خلال ستة أعوام هي مدة عمله في المشرحة، لم يشهد قط مثل هذه الإصابات. فبعض الشهداء لم يبق منهم إلا قطع لحم بحيث يصعب تمييز الساق عن اليد كما أن هناك أسرا كاملة اختلطت أشلاؤها معا.

وتابع الشوربجي “في أثناء حديثنا، داخل المشرحة لدينا أب تُوفيّ وابنه الذي يبلغ من العمر عامين بين ذراعيه وما يزال يحتضنه”. وأضاف “لم نتمكن من فصل الوالد عن الابن، سنتركهما على تلك الحال وسندفنهما على تلك الحال أيضا”.

فقد مدير المشرحة أقارب له في الحرب. وتذكر أنه علم بوفاة أحد أفراد عائلته، وهو شاب. وتوقع الشوربجي أن يتسلم الجثة في المشرحة التي يديرها. لكن والد هذا الشاب اتصل به ليخبره بأن أشلاء ابنه اختلطت بأشلاء من أجسام أخرى لدرجة أنه كان لا بد من دفنهه في مقبرة جماعية.

وفي اليوم التالي، وصل الأب إلى المشرحة. شعر الشوربجي بحيرة، وسأله “إيش اللي جايبك هنا؟”.

أجاب الأب “ابني مات واندفن أنا جاي أشم ريحة دم. أنا ما شميت ريحة دم ابني ولا شفته”. وكرر القول “أنا إجيت أشم ريحة دم، ولا شفت ابني”.

تحشرج صوت الشوربجي وهو يروي القصة. توقف، ثم واصل الحديث قائلا “ما قدرت أتكلم معاه، وقفت مصدوم. سيبته ومشيت ولا استجريت أعزيه”.

وأضاف أن الجميع في غزة “دفع ثمن هذه الحرب” بعد أن فقدوا أسرهم أو أقاربهم. وكان البعض محظوظا. وأضاف أن صاروخا أصاب منزلا به 25 امرأة وطفلا، لكنه لم ينفجر. وقال إن صاروخا ثانيا سقط بعد 15 دقيقة، لكن عند سقوطه كان قد تم إجلاء الجميع.

ويحصي مدير المشرحة عدد الشهداء بحلول السادسة مساء ويرسله إلى وزارة العدل في غزة والتي تشرف على المشرحة. ثم يعود إلى منزله ليشترك مع أسرته في البحث عن المياه والكهرباء والخبز.

ولا يتحدث الشوربجي عن عمله عندما يعود إلى منزله. ويقول إن المشاهد والذكريات والتفاصيل اليومية مروعة. وأضاف أنه عندما يسأله أهله عن يومه، يكتفي بالرد قائلا إنه استقبل عددا من “الشهداء”.

 

* في قسم الولادة

التقى فريق رويترز لأول مرة بالقابلة سماح قشطة، التي كانت حاملا في ذلك الوقت، في أوائل نوفمبر تشرين الثاني. وكانت في منتصف نوبة عمل مدتها 24 ساعة في مستشفى ناصر في خان يونس.

كانت سماح قد استيقظت في ذلك اليوم في السادسة صباحا في رفح. وكان الطقس لا يزال معتدلا، لذا كانت أسرتها تحصل على الدفء خلال الليل رغم انقطاع الكهرباء. لكن نومها كان في تلك الليلة متقطعا بسبب حملها ولأنها رأت في المنام والديها حسني وسهيلة اللذين ماتا قبل هذه الحرب.

قامت بإعداد وجبة الإفطار لأطفالها الثلاثة ثم تحركت سيرا على قدميها من رفح حتى وصلت إلى المستشفى في خان يونس في رحلة استغرقت ما يزيد على ساعة.

وكان عليها في بعض الأحيان أن تشق طريقها في أعقاب القصف بين شظايا وحطام متساقط. وقالت “لحظات ما بنساهاش خالص”. أرادت الركض لكنها لم تستطع بسبب الحمل.

عندما وصلت إلى خان يونس ومستشفى ناصر، وجدت هناك حالة من الفوضى. فقد تحول المستشفى إلى ما يشبه مأوى مؤقتا حيث تتدلى ملابس مغسولة بشكل عشوائي ويلعب الأطفال وتختلط صرخات الرضع بأصوات الأقارب المكلومين.

وكان عليها أن تشق طريقها عبر خيام النازحين في موقف السيارات قبل دخول مبنى المستشفى. كانت الممرات والسلالم مكتظة بأسر تبحث عن مأوى والأطفال يركضون حفاة وكبار السن يجلسون على مقاعد بلاستيكية في حين تناثرت الملابس والحشايا وحقائب السفر وأكوام الغسيل المعلقة في كل مكان.

وتفوح رائحة نفاذة في المكان.. خليط من الدم والبول والبراز وأجسام لم تستحم منذ فترة. وضعت سماح كمامتها على الفور.

وفي الداخل، قال وليد أبو حطب مدير قسم الولادة لرويترز إن 50 ألف امرأة حبلى في غزة يواجهن أزمات صحية، وهو رقم أكدته وكالات الأمم المتحدة. وأضاف أن حالات الإجهاض وولادة أجنة ميتة ترتفع بنسبة 20 بالمئة في خان يونس وأن جميع الحوامل معرضات للخطر بسبب انهيار الرعاية الصحية الأولية واكتظاظ المستشفيات وأن الجرب بدأ ينتشر في مستشفى ناصر.

وقال أبو حطب إن غرف العمليات المخصصة للعمليات القيصرية تستخدم لعلاج جرحى القصف مضيفا أنهم يواجهون أوقاتا عصيبة.

كما تمثل منظومة الصرف الصحي مصدر خطر كبير. ويقول الأطباء إن المراحيض مكتظة في المستشفى حيث يستخدم ما يصل إلى 5000 شخص نفس المراحيض. وشاهدت رويترز طوابير كبيرة وأرضيات مبللة وموحلة في ظل نقص الصابون والمياه. وقال مسعفون لرويترز إن النساء الحوامل معرضات لخطر الإصابة بالتهابات المسالك البولية وغيرها من الأمراض التي قد تؤدي إلى وفاة الأطفال.

وداخل القسم كانت الشابة إيمان أبو مطلق تشكر سماح على مساعدتها في ولادة توأمها. وقال والدهما أيمن أبو عودة إنه سيسميهما حمزة وعدي على اسم اثنين من أبناء أخيه شهيدا في غارة جوية على منزلهما أثناء الحرب.

اضطر أبو مطلق وأطفال الزوجين الثمانية بعد هذه الضربة إلى العيش في خيمة داخل إحدى المدارس بدون حشايا أو بطانيات لمدة سبعة أيام.

وقال أبو مطلق إن الوضع صعب، لكن الله وهبه طفلين “بطلين”.

كان من المقرر أن تخضع سماح لعملية قيصرية في أواخر أكتوبر تشرين الأول، لكنها أخرت الولادة على أمل التوصل إلى وقف لإطلاق النار. وبسبب نقص الأدوية، كان المسكن الوحيد الذي تلقته عندما وضعت مولودها في 11 نوفمبر تشرين الثاني هو مخدر للجزء السفلي من الجسم. وبعد يوم واحد، أنزلتها سيارة إسعاف بالقرب من منزلها قدر الإمكان لأن الشوارع كانت مغلقة بسبب الأضرار الناجمة عن الغارات الجوية.

وقالت “اتمشيت حوالي نصف ساعة وأنا عاملة قيصري ومعايا بيبي”.

عادت إلى أطفالها الآخرين نورسين، وهي فتاة تبلغ من العمر سبع سنوات ومحمد (ثلاث سنوات) وموسى (ست سنوات). وكانت الأسرة في استقبال المولودة الجديدة نايا.

قبل الولادة، تمكنت سماح وزوجها من الحصول على عبوة واحدة فقط من الحفاضات وعلبة واحدة من لبن الأطفال. وقالت إنها لا تعرف ما ستفعله الأسرة بعد ذلك لرعاية نايا. وتحتاج سماح لأسباب طبية إلى استخدام الحليب الصناعي في إرضاع صغيرتها.

وهناك صعوبة بالغة في الحصول على الضروريات. ويضطر زوجها، الذي يعمل مسؤول حسابات (كاشير) في أحد مراكز التسوق، إلى الوقوف في الطابور لساعات على أمل الحصول على سلع أساسية مثل الخبز. ويعيشون بشكل أساسي على الشاي والبسكويت الذي يحتوي على التمر، والذي توفره لهم وكالة تابعة للأمم المتحدة. وقالت “لا يوجد غاز لتسخين المياه… بنولع الخشب وبنسخن ونغلي المياه علشان حليب البيبي”.

وعندما تتعافى من ولادة نايا، تعتزم سماح العودة إلى العمل في شهر يناير كانون الثاني في جناح الولادة بمستشفى ناصر. وقالت إنه إذا انتهت هذه الحرب، فسيكون هذا القسم بمثابة نافذة للأمل.

وقالت إنها تسمع دوي القصف وصفارات الإنذار وصراخ أهالي الشهداء وصراخ النساء أثناء المخاض. وأضافت أنها في كل مرة تساعد فيها امرأة على الولادة، وفي كل مرة تحمل بين يديها طفلا حديث الولادة، تشكر الله. وقالت إنها تشعر بالسعادة لأن الله وهبهم حياة جديدة وطفلا جديدا.