احتلّ الغناء الجماعي بصفةٍ عامة مكانة مرموقة في الفن الشعبي الفلسطيني، والملالاة (أو املالاه، والمولالاة) أحد أبرز أشكاله؛ فهو قالب غنائي قروي يندرج تحت إطار الترويدة، أو “الدحريجة”، وقد صار جزءاً لا يتجزأ من المقاومة الفلسطينية.

ما يميّز الملالاة أنه نوعٌ من الغناء المشفر، إضافةً إلى كونه فناً ابتدعته الجماعة، أن المرأة الفلسطينية حوّلته إلى وسيلةٍ لإيصال رسائل سرية إلى ذويها في سجون الاحتلال، البريطاني أولاً، ثم الإسرائيلي.

فما هو أسلوب الملالاة؟

أسلوب غنائي أصيل من قوالب الغناء الفولكلوري النسوي القروي، الذي كان متوارثاً في فلسطين منذ القدم إلى وقتٍ قريب، وقد استمدّ اسمه “الملالاة” من زيادة حرف اللام إلى كلمات الأغنية.

امتازت مناطق وسط وجنوب فلسطين، المتلازمة مع مناطق انتشار فولكلور “السامر”، بهذا الأسلوب الغنائي الجماعي الذي ينضوي تحت ما يُعرف بـ”الدحاريج” و”التراويد”، وكان يُعتبر بمثابة سامر النساء.

يؤدّى الملالاة بطريقةٍ جماعية من خلال التناوب بين فريقين يصطفان متقابلين، ويتبادلان الشعر غير الملحّن. وخلال ذلك، يتحرك الصفان برشاقةٍ وخفة، فيقتربان من بعضهما البعض ويبتعدان، بخطواتٍ قصيرة سريعة ومتتالية.

والترويدة عموماً هي نوع من الغناء البطيء، الذي يحكمه إيقاع معيّن يعتمد على الإلقاء بدرجةٍ أساسية، الإلقاء المنغم الذي يحمل موسيقاه الخاصة. ويُعتقد أن كلمات الترويدة لم تكن تؤدّى قديماً بصحبة أي آلة موسيقية، ولأن النساء كن في الغالب يغنينه بشكلٍ جماعي، فكان الإيقاع يُخلق عبر أصواتهن.

أما الغناء الفردي، فقد كان يُغنى في الكروم والأعراس وجلسات النساء، ويندرج تحت غناء التراويد الذي كان سائداً في القدس ورام الله والرملة والخليل وغـزة. وفي حين رافق الملالاة أعراس النساء، كان السامر مرافقاً لأعراس الرجال.

ووفقاً لبحثٍ أُعدّ لـ”جامعة الأردن” عام 2017، أشار معدّه محمد أحمد مصلح إلى أن الملالاة هو عبارة عن شعرٍ شعبي على وزنٍ مخصوص، غالباً ما يُغنى بمقامَي “البيات” و”السيكا”، وهما مقامان غنائيان أصيلان عذبان وشيّقان.

يمتاز مقام البيات بمقاطعه القصيرة، ولحنه الخفيف سهل الحفظ والالتقاط لدى سامعيه، وهو الأكثر شهرة بالتراويد. أما مقام السيكا، فيمتاز بالبطء والترسّل، “وفيه شيء من الندب والشجون، يتناسب مع ليالي الحناء وتوديع العروس”.

عملت النساء على تشفير الكلمات لإيصال رسائل سرية إلى الأسرى/ Shutterstock
عملت النساء على تشفير الكلمات لإيصال رسائل سرية إلى الأسرى/ Shutterstock

كيف صارت الترويدة شكلاً من أشكال المقاومة؟ 

بدأ الأمر خلال فترة الاحتلال العثماني، حين امتهنت الترويدة -والملالاة تحديداً- وظيفة سياسية. عملت النساء على تشفير الكلمات لإيصال رسائل سرية إلى الأسرى، حين يذهبن لزيارتهم في السجون، وإلى المقاومين في الأماكن التي كانوا يختبئون بها.

كانت النساء حلقة الوصل بين الأسرى والمقاومين، ومن خلالهن، كان يُدرك المعتقلون ما الذي يجري في الخارج وما ينتظرهم. كانت النساء يؤلفن شعراً يحتوي على رموز تتضمن تفاصيل عمليات الفداء وأبرز الأخبار، بطريقةٍ مشفرة لا يمكن للعدو أن يفهمها.

ولم يكن التشفير بالأمر السهل أبداً، إذ اعتمد معظمهن على إضافة حرف “اللام” وتكراره داخل كل كلمة تقريباً، مع اختلاف تشكيل الحرف من كلمةٍ إلى أخرى، وأحياناً كان بعضهن يلجأن إلى قلب الحرف الأخير للكلمة.

وفي الواقع كانت المرأة الفلسطينية تعمل على تأليف الكلام الذي تريد من خلاله إيصال رسالتها، ثم تحبك معانيه، وبعد ذلك تعمل على إعادة صياغته وإضافة التشفير اللازم حتى لا يفهمه الحراس.

وكان كلّ ذلك يتم مع الحفاظ على وزن اللحن وإيقاعه، وابتداع الشعر المناسب له، حتى تحافظ على شكل الترويدة الفنية.

انتقل أسلوب الملالاة إلى فترة الاحتلال البريطاني، وتحديداً مع بداية الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، حين عمد الاحتلال إلى قطع كل أساليب التواصل بين الثوار وأهاليهم في القرى ومحيطه.

عندئذٍ لجأت النساء مجدداً إلى الملالاة لإيصال الأخبار إلى الثوار، عن طريق تشفير الغناء. كانت الترويدة تقوم في الغالب على قلب أحرف الجملة، أو الحرف الأخير من كل كلمة.

وكما كانت المرأة الفلسطينية تقوم بتشفير أغاني السياسة والمقاومة، كانت تشفر كذلك أغاني الحب، حتى يتسنى لها التعبير عن مشاعرها بشكلٍ مموّه خوفاً من افتضاح أمرها أمام الحراس.

ولعلّ أشهر ترويدة من تلك الفترة هي “ترويدة الشمالي” التي تقول كلماتها:

وأنا ليليلبعث معلي لريح الشمالي لالي يا رويللووو

(وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي)

ياصليلار ويدورليللي على لحبيليلابايا رويللووو

(يوصل ويدور على الحباب يابا)

يا هللوا روح سلللملي على للهم يا رويللووو

(يا هوا روح سلم لي عليهم)

وطالالالت الغربة الليلة واشتقنا ليلي للهم يا رويللووو

(وطالت الغربة واشتقنا لهم)

يا طيرلرش روح للي للحباب واصلللهم يا رويللووو

(يا طير روح للأحباب ووصل لهم)

فكانت النساء يغنين بتلك الطريقة المشفرة، عندما يمرّ شاب من الثوار أمامهن، لإعطائه الأخبار وإيصال الرسائل التي تتضمن أسرار الحب والشوق حيناً، وأسرار الحرب والمقاومة حيناً، إضافةً إلى رسائل تحذيرية في أحيانٍ أخرى.

الفنانة الفلسطينية سناء موسى اشتهرت بأداء التراويد، وخصّصت برنامجاً حمل عنوان “الترويدة”، عملت من خلاله على نشر أسلوب الملالاة الذي اشتهرت به النساء الفلسطينيات عن طريق شرح معانيه.

ومن أغنيات الحب، أغنية “يا حلولبنا” أو “ترويدة الخليل“، التي أعادت موسى تقديمها في برنامج ترويدة، وهي ترتدي الثوب التقليدي الفلسطيني، وأرفقت الفيديو بكلمات الأغنية وفك شيفرتها، التي تقول:

يا حلولبنا يا حلولبنا (يا حبنا)

يا طيليري (طيري) خذ مكتولوبنا (مكتوبنا)

حطللي غربال شيللي غربال..

مرجولوه (مرجه) رمان لحلوبنا (لحبنا)

يا أبو الويلويلرد، يا أبو الويلويلرد (يا أبو الورد)

على خدلو عطور منولرد (على خده عطر من الورد)

على المييلي، على المييلي (على المي)

بدرحهولوه (بدرج له) على المييلي (المي)

ومن أغنيات المقاومة، ترويدة “يا طالعين الجبل“، التي أدّتها بصوتها الفنانة الفلسطينية الراحلة ريم بنا، ثم أعادت تقديمها الفنانة الفلسطينية رولا عازر عام 2021، وتقول كلماتها:

يا طالعين عين للل الجبل.. يا موللل الموقدين النار

بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح

ما بدي منكي لللكم خلعة.. ولا لا لا لا بدي زنار

ولا لا لا لا بدي ملبوس

بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح

إلا غزال للللللذي جوين.. للللكم محبوس

بين للل يامان يامان.. عين للل الهنا يا روح

في هذه الأغنية، أخبرت النساء “المحبوس” أن “الغزال” -والمقصود الفدائيين- آتٍ في الليل لتحريرهم، وأن إشارة بدء العملية هي عندما يرون النار موقدة.