داخل مدينة باريس الفرنسية وبالتحديد في قلب الحي اللاتيني، يمكن رؤية إحدى أجمل العمارات الإسلامية العربية الحديثة، التي يصل عمرها لأزيد من 100 سنة، بنيت هذه العمارة تكريماً للجنود المسلمين في الحرب العالمية الأولى.

مسجد باريس الكبير هو من أقدم وأعظم الأماكن الإسلامية في العاصمة الفرنسية، إذ يتميز بطرازه العربي المغربي، إذ يمكن رؤية مئذنته فور دخول الحي، كما يشتهر في أرجاء المدينة بتاريخه الكبير.

 

أول مسجد في باريس لتكريم المسلمين 

بدأت أعمال بناء مسجد باريس الكبير مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، “لتكريم الجنود المسلمين الذين ماتوا من أجل فرنسا” حسب الموقع الرسمي للمسجد ، ويعتبر المسجد أول وأقدم مسجد مشيد بالعاصمة الفرنسية باريس.

والجدير بالذكر أن القوات الفرنسية كانت قد اقتادت عدداً من الجنود من دول شمال إفريقيا، الذين كانوا تحت الاستعمار الفرنسي؛ للمحاربة في صفوفها خلال كل من الحرب العالمية الأولى والثانية.

قررت الحكومة الفرنسية تشييد المسجد في ديسمبر/كانون الأول سنة 1916، فيما وضع الحجر الأول رسمياً في 19 أكتوبر/كانون الأول سنة 1922 بحضور العديد من الشخصيات الفرنسية والعربية، من بينها عضو الجمعية الوطنية الفرنسية “غاستون دومرغ” والسلطان المغربي “المولى يوسف”.

كما وافقت جمعية الحبوس والأماكن المقدسة الإسلامية على تنفيذ أعمال المسجد الكبير فيما لا تزال تقوم بذلك إلى يومنا الحالي، أنشئت هذه الجمعية في فبراير/شباط سنة 1917 لتنظيم رحلات الحج لمسلمي شمال إفريقيا.

بدوره، صوت مجلس النواب بالإجماع، في جلسته المنعقدة في يونيو/حزيران 1920، على مشروع قانون الحكومة “لإنشاء معهد إسلامي في باريس”، في أعقاب التقرير الذي أعده إدوارد هيريوت، نائب عمدة ليون آنذاك.

وجاء في هذا التقرير: “يجب تكريم أكثر من 100 ألف من رعايانا وأتباعنا في خدمة وطن مشترك من الآن فصاعداً. إلى كل هؤلاء المسلمين، مهما كان أصلهم، سترحب باريس بالمعهد الإسلامي”.

 

معمار مغربي إسلامي داخل باريس 

يتميز الطراز المعماري للمسجد بالتنوع الثقافي، خاصة لدول شمال إفريقيا، فالتصميم الداخلي للمسجد الذي نفذه عدد من الحرفيين المغاربية مستوحى من مسجد القرويين الواقع في مدينة فاس المغربية.

بالإضافة إلى الزليج والفسيفساء اللذين يغطيان جدران المسجد، بالإضافة إلى القبة الكبيرة المنحوتة يدوياً، والثريا الضخمة، والسجاد الأحمر، والأحرف الكوفية المستنسخة من القرآن الكريم.

كما يشتهر مسجد باريس الكبير بالمئذنة التي يصل ارتفاعها إلى 33 متراً، والتي قد تكون نسخة طبق الأصل من مئذنة مسجد الزيتونة الموجود في تونس، فيما يشبّهه البعض الآخر بمئذنة مسجد الكتبية بمدينة مراكش بالمغرب.

فيما يتشابه باقي أرجاء المسجد مع الآثار الأندلسية العريقة التي يتميز بها قصر الحمراء، خاصة فيما يتعلق بالأعمدة المنحوتة والبلاط الزمردي الجميل، يعتبر مسجد باريس الكبير مزيجاً بين الطابع التقليدي والمعاصر للفن الإسلامي.

يحتوي المسجد على فناء مظلل بالإضافة إلى ساحة مزينة بالأشجار تبلغ مساحتها حوالي 3500 متر مربع، يتوسطها عدد من نوافير المياه.

أدرج المسجد الكبير لباريس والمركز الإسلامي في قائمة الجرد التكميلية للآثار التاريخية بموجب المرسوم الصادر في 9 ديسمبر/كانون الأول سنة 1983، وسمي الصرح بـ”تراث القرن العشرين”.

يمكن لزوار المسجد التجول في أروقته والاستمتاع بجمالية تفاصيله، سواء أكانوا مسلمين أم لا، فالكل مرحب به هنا، ويحظى الجميع بالتعامل والاهتمام نفسه من العاملين الموجودين للإجابة على كل الاستفسارات.

كما يتوفر المسجد على ملحقات ثانوية للراحة والاسترخاء، من مكتبة، وحمام تقليدي مخصص للنساء، ومطعم، وقاعة شاي تقدم حلويات شرقية والشاي بالنعناع.

ومنذ افتتاحه عام 1926، وتحت إشراف قدور بن غبريت، أصبح الجامع الكبير في باريس منارة مهمة تعكس الحياة الدينية للمسلمين في البلاد.

 

مسجد باريس الكبير والحرب العالمية الثانية 

كان للمسجد دور مهم خلال الحرب العالمية الثانية، خاصة خلال الاحتلال الألماني للعاصمة باريس ما بين سنة 1940 و1944، إذ تحول مسجد باريس الكبير إلى منفذ تحت الأرض لإيواء مقاتلي شمال إفريقيا الذين تمكنوا من الفرار من معسكرات الاعتقال الألمانية.

كما سلط الفيلم الفرنسي “رجال أحرار” (Les Hommes Libres)، الذي أنتج عام 2011 من إخراج إسماعيل فروخي، الضوء على الأدلة التاريخية المتضاربة حول قصة المسجد الكبير في زمن الحرب وإنقاذ عائلات يهودية وأطفال من المداهمات والاعتقالات.

كما تشير السيرة الذاتية للمطرب الجزائري اليهودي “سليم هلالي”، إلى أنه تم إنقاذه من معسكرات الاعتقال سنة 1940 بفضل تدخل بن غبريت الذي أصدر له شهادة تثبت اعتناقه الإسلام. وتناول الفيلم قصته في مشهد يؤديه الممثل محمود شلبي وهو ينشد في فناء المسجد.

في سبعينيات القرن الماضي  كان المسجد في قلب تجديد الدراسات الإسلامية في أوروبا من خلال الجمع بين المبادرات النقابية والتحريرية، فيما أسهم العميد السابق للمسجد في ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية.

لا يزال مسجد باريس الكبير إلى يومنا الحالي يحافظ على مكانته الدينية والتاريخية داخل نفوس مسلمي فرنسا، كما يفتح المسجد بابه أمام المسلمين وغير المسلمين القادمين إلى المدينة بغرض السياحة، أو محبي العمارة الإسلامية.