في 8 مارس/آذار 1920، أصدر “المؤتمر السوري العام” إعلان الاستقلال باسم الشعوب التي تتحدث العربية وتعيش في سوريا الكبرى، والتي تضم دول لبنان وسوريا والأردن وفلسطين، وخلال الحرب العالمية الأولى قاتل العديد من العرب السوريين مع قوات الحلفاء، ما ساهم في وضع نهاية للحرب.
وصدر حديثا عن منشورات أتلانتيك لعام 2020 كتاب “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر العربي السوري لعام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي-الإسلامي” للمؤلفة والأكاديمية الأميركية إليزابيث طومسون.
واعتبرت طومسون في كتابها الذي أهدته ”إلى كل السوريين“ أن كثيرا من النخب العربية في بلاد الشام اعتنقت قبل قرن من الزمان مبادئ الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في “الحرية وحق تقرير المصير للدول الكبرى والصغرى على حد سواء، وضمان الاستقلال على أساس الحقوق المتساوية، ونبذ سياسة الغزو والاستعمار”.
وكان المؤتمر السوري قد وضع بالفعل دستور ملكية برلمانية ديمقراطية يمكن أن تكون نظيرا لبولندا وتشيكوسلوفاكيا ودول أخرى استقلت عن الإمبراطوريات الروسية والنمساوية والعثمانية التي هزمت في الحرب العالمية الأولى، لكن فرنسا ودولا غربية أخرى اجتمعت في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 وكان لها رأي آخر.
الديمقراطية العربية
ويروي كتاب المؤرخة وأستاذة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الجامعة الأميركية، قصة لحظة محورية في تاريخ العالم الحديث، عندما أصبحت الديمقراطية التمثيلية خيارا سياسيا للعرب، بينما اعتبرها الغرب تهديدا لمصالحه الاستعمارية وتعمد تضييعها.
وصدرت المؤلفة الكتاب بخريطتين إحداهما للأراضي التي اعتبرها الأمير فيصل “بلاد الشام” أو سوريا الطبيعية عام 1919، وتضمنت القدس وحيفا وطرابلس وبيروت ودمشق ودرعا وعمان وحمص وحلب والرقة ودير الزور والجوف، وفي الخريطة الثانية عرضت تقسيم الأراضي الذي رعته بريطانيا وفرنسا لبلاد الشام والعراق في يوليو/تموز 1922 في عصبة الأمم، وهو التقسيم الذي يكاد يتطابق مع الوضع الحالي لبلاد سوريا والعراق ولبنان والأراضي الفلسطينية.
يحكي الكتاب قصة المؤتمر العربي السوري لعام 1920، الذي صاغ وصدّق على ما وصفته بالدستور الأكثر ديمقراطية حتى الآن في العالم العربي المستوحى من المبادئ الـ 14 للرئيس الأميركي وودرو ويلسون (1846-1924).
ومتأثرا بالخوف من الاحتلال من قبل فرنسا، شكّل المجلس السوري تحالفا تاريخيا بين الليبراليين والقادة المسلمين المحافظين، باسم الحرية والمساواة وبمباركة رجال الدين المسلمين.
وتجادل طومسون بأن المستعمرين الأوروبيين خشوا أن تهدد الديمقراطية العربية حكمهم في شمال أفريقيا وسهولة وصولهم إلى النفط في العراق والخليج، لذلك قرر قادة مؤتمر باريس للسلام، بالتعاون مع عصبة الأمم الجديدة، تدمير “النظام الديمقراطي” الوليد في دمشق.
وتتابع المؤلفة معتبرة أن احتلال فرنسا لسوريا أدى إلى تشويه سمعة الليبرالية في العالم العربي، وفي ظل هذه الظروف، انفصلت النخب العلمانية والإسلامية عن بعضها بعضا وانقسمت، ما رسخ استقطابا سياسيا حادا بين الإسلاميين والليبراليين استمر في إضعاف النضال ضد الدكتاتورية بعد قرن من الزمان في زمن الربيع العربي وما بعده.
إلهام الواقع
وفي حوارها مع موقع جدلية قالت طومسون إنها قررت الشروع في الكتاب في أغسطس/آب 2013 بالتزامن مع “مذبحة الإخوان المسلمين في القاهرة التي أصبحت علامة مميزة لنهاية التحالف الثوري بين الإسلاميين والليبراليين العلمانيين، والمسلمين والمسيحيين، الذي حشد ميدان التحرير وأسقط الدكتاتور حسني مبارك”. وبعد ذلك تحولت الانتفاضة السورية ضد بشار الأسد لحرب أهلية، على حد تعبيرها.
وقارنت المؤلفة بين انهيار هذا التحالف بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين ما حدث عام 1920 عندما اتحد القادة الدينيون والعلمانيون واتفقوا على استبدال نظام ديمقراطي جديد بالحكم العثماني لسوريا، بحسب وصفها.
رفض غربي
وتقول المؤلفة إن البريطانيين دعموا القوميين العرب في انتفاضة “قومية” ضد الحكم التركي، سعيا لبناء دولة مستقلة، وفي أكتوبر/تشرين الثاني 1918، دخل الأمير فيصل وضابط المخابرات البريطاني لورنس وقادة عرب دمشق، حيث أعلنوا حكومة دستورية في سوريا الكبرى المستقلة.
وفي العام التالي، وفي مؤتمر باريس للسلام، حصل فيصل على دعم الرئيس الأميركي ويلسون الذي أرسل لجنة أميركية إلى سوريا لتقصي تطلعات شعبها السياسية، ومع ذلك، فإن قادة الحلفاء الآخرين في باريس -وفي وقت لاحق مؤتمر سان ريمو- انتقدوا الديمقراطية العربية، واعتبروها تهديدًا لحكمهم الاستعماري.
وفي 8 مارس/آذار 1920، أعلن المؤتمر العربي السوري الاستقلال وتوّج فيصل ملكا بـ “ملكية تمثيلية”، ودعم رجل الدين والمفكر الإسلامي رشيد رضا هذا الخيار، وقاد الجمعية التأسيسية لتحقيق المساواة بين جميع المواطنين، بما في ذلك غير المسلمين، بموجب شرعية كاملة من الحقوق، بحسب المؤلفة.
لكن فرنسا وبريطانيا رفضتا الاعتراف بحكومة دمشق وبدلا من ذلك فرضتا نظام انتداب على المحافظات العربية في الدولة العثمانية المهزومة في الحرب، بحجة أن العرب لم يكونوا مستعدين بعد للحكم الذاتي.
وبموجب هذا الانتداب، غزا الفرنسيون سوريا في أبريل/نيسان 1920، وسحقوا الحكومة العربية، وأرسلوا قادة المؤتمر السوري العام إلى المنفى، وتم تدمير الائتلاف الهش المشكل من تحالف “الحداثيين العلمانيين والإصلاحيين الإسلاميين” الذين ربما يكونون قد أسسوا الديمقراطية الأولى في العالم العربي بحسب تعبير الكتاب.
دهشة وتعجب
وفي حوارها مع “جدلية” قالت المؤلفة إن كتابها يعد مساهمة في المناقشات التاريخية حول ضعف الديمقراطية وتأثير الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، ويتحدى الروايات الاستعمارية التي لا تزال سائدة والتي تلقي باللوم على الثقافة المحلية في الدكتاتورية والعنف السياسي وقمع الأقليات، عبر إظهار كيف قوّض الفرنسيون والبريطانيون عمدا برنامجا سياسيا شعبيا للتسامح والمساواة وسيادة القانون.
وتعتبر طومسون أن الكتاب هو مساهمتها الثالثة في الجهود لفهم الطرق التي شكّل بها الحكم الاستعماري المؤسسات والأعراف السياسية في العالم العربي المشرقي، وكيف “أدى التدخل الأجنبي إلى دق إسفين بين الأحزاب العلمانية والدينية، ما أضعف المعارضة الديمقراطية للدكتاتورية العربية منذ ذلك الحين”.
وتناقش المؤلف كيف نظر البريطانيون والفرنسيون إلى العرب في ذلك الوقت، وكيف كانوا -العرب- منظمين سياسيا رغم سنوات الحرب والمجاعة والحرمان من الأدوات الأساسية اللازمة لبناء وتأمين دولة مستقلة.
وتعبر المؤلفة عن اندهاشها من أن أعضاء الجمعيات العربية في دمشق قرؤوا مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون وتبنوها، كما عبرت في الحوار عن دهشتها كذلك من مساهمة الشيخ رشيد رضا خلال وجوده بدمشق في صياغة دستور ديمقراطي ودوره المركزي في هذه الحركة المدنية التي تبنت توجهات مدنية مختلفة عن أفكار “سحق الطبقة الدينية” التي حدثت بالحقبة الأتاتوركية في تركيا خلال وقت لاحق، بحسب تعبير المؤلفة.