“طاها حسين”، هكذا وقّع الروائي والمترجم والناقد والمفكر المصري طه حسين مقالا له بجريدة الجمهورية في السابع من يونيو/حزيران 1956، ليُنفذ بطريق عملي دعوته إلى كتابة أي حرف منطوق بالكلمة في إطار ما أطلق عليه محاولات تبسيط قواعد اللغة العربية.

لم يتطرق مقال طه حسين المكتوب بالطريقة الثائرة على قواعد اللغة إلى أي إشارة تخص تبسيط العربية، لكنه كُتب بطريقة إمضاء الكاتب نفسها -ما يُنطق يُكتب- وكأن عميد الأدب العربي لا يحتاج إلى تسويغ ما أقدم عليه، فرفع شراع سفينة التغيير ومضى بها منفردا.

 

قطعا لم تمر فعلة الأديب المصري من دون أن يردّ عليها مفكرون لهم أيضا مكانتهم في الحقل الثقافي المصري، ومع حالة الانقسام الفكري حيال إشكالية اللغة ومدى القدرة على تبسيطها، استفاد المعنيون باللغة ومحبّوها من ثراء النقاش بين قامات لا يزال إرثها ينهل منه كل مطّلع.

وتعدّ معركة تبسيط قواعد اللغة إحدى المعارك المتنوعة لمؤلف “دعاء الكروان” حيث تنقل نزاله بين الأدب واللغة والفلسفة والتفاسير الدينية، ورغم مرور 132 عاما على ذكرى ميلاده، في الـ17 من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1889، فإن صدى تلك المعارك ما زال شاهدا على أن المنتصر فيها دائما هو الأدب والثقافة العربية بوجه عام.

 

عاشق اللغة

سيكون من فضول الكلام وصف طه حسين بعاشق اللغة العربية، فمسيرته الفكرية حافلة بمحاولات الكشف عن ثراء اللسان العربي، والاشتباك مع المائلين إلى الجمود اللغوي الذين يقفون حائلا أمام شيوع العربية على الألسنة المختلفة، حسب رؤيته.

ويمكن الاستدلال على ذلك بسلسلة الكتب التي ألفها في سبيل رحلته المنطلقة أساسا من حب اللغة مثل “من حديث الشعر والنثر”، و”في الأدب الجاهلي”، و”مستقبل الثقافة في مصر”، و”أدبنا الحديث ما له وما عليه”، و”مع أبي العلاء في سجنه”، و”خصام ونقد”، و”فصول في الأدب والنقد”، و”تقليد وتجديد”، و”من لغو الصيف”، و”من بعيد”، و”من أدبنا المعاصر”، و”ألوان”، و”حافظ وشوقي”، و”الحياة الأدبية في جزيرة العرب”.

وقبل ذلك بدأ ارتباط صاحب كتاب “الأيام” باللغة منذ الطفولة، فقد حفظ القرآن قبل أن يتم العاشرة ثم التحق بمدارس الأزهر التي أكملت صقله لغويا وأحكمت ارتباطه بالعربية ليكمل دراسته بجامعة القاهرة فكان من أوائل المنتسبين لها عام 1908، وأدّى تفوقه بالدراسة الجامعية إلى ابتعاثه إلى فرنسا لإكمال الدراسات العليا لتكون أطروحة الدكتوراه عن أحد عمالقة الشعر القديم “أبي علاء المعري”.

 

وخلال مسيرته الفكرية حصل على عضوية مجمع اللغة العربية عام 1940، وكان مقررا للجنة الأدب بالمجمع، ثم انتخب رئيسا له عام 1963، وتولى مهمة الإشراف على المعجم اللغوي الكبير، إلى جانب توليه منصب وزير المعارف من عام 1950 إلى عام 1952.

مبعث فكرة تبسيط اللغة

لا يمكن تحديدا معرفة الوقت الذي تشبع فيه طه حسين ذهنيا بفكرة تيسير الكتابة العربية، لكن يمكن لمس نشاطه خلال مرحلة ما بعد التشبع الفكري، إذ استغل عضويته بمجمع اللغة العربية ليقدم مقترحا بتخصيص جائزة قدرها ألف جنيه لأحسن اقتراح فى تيسير الكتابة العربية.

وعن ذلك المقترح كتب “هذا من أنبل المقاصد التي يرمي إليها إنسان في بلد يريد أن يتعلم، وإننا في عصر ينص فيه الدستور على أن يكون التعليم عاما وعلى وجه الإلزام، ثم توجد هذه العوائق التى تمنع من تعميم التعليم، فالتكليف يقتضي أن يكون المكلف متمكنا من إنجاز ما عليه، والحياة الديمقراطية تتقاضانا أن نعمل على إشاعة التعليم وتمهيده للعامة بتيسير وسائله.. فمن طبيعة الأشياء إذن أن تكون الكتابة ميسّرة لكي يتيسر التعليم، وأكبر الظن أن فشل التعليم الإلزامي يرجع إلى أن القراءة صعبة”.

وتابع “لقد دعونا نحن إلى هذه الفكرة منذ سنين، متأثرين بالعقلية الحديثة بعد أن تزودنا بالثقافة الغربية، وبعد أن رأينا نحو اللغات الأجنبية ميسرا، فأردنا أن نكون كغيرنا موفوري الحظ من التحضر الحديث، نقيم نحونا على الظواهر الطبيعية المحضة”.

وحاول طه حسين إعطاء دليل من التاريخ اللغوي للمساعدة على تمرير مقترحه، فقال إن “الكتابة العربية الأولى لم تكن مضبوطة، وضبطها جاء متأخرا واجتهاديا شيئا فشيئا، وبحسب اجتهاد علماء اللغة الذين وصلوا في اجتهادهم إلى ما نمشي نحن عليه الآن، وأتساءل: لماذا لا يباح لنا الاجتهاد، ونُمنع منه منعًا باتًّا؟ ولماذا نسلّم به للأقدمين وننكره كل الإنكار على أنفسنا؟ ولماذا لا يكون الأقدمون قد أصابوا فى بعض ما قرروا وقد أخطؤوا في بعضه الآخر؟”.

وزاد في دليله “في الزمن الماضي ما كانوا يكتبون الألف وسط الكلمة، ونجد ذلك كثيرا في المصاحف. هذه المسائل يدرسها المجمع منذ زمن طويل يرجع إلى أيام المرحومين الشيخ أحمد الإسكندرى والشيخ حسين والي. وحقيقة الأمر أن بعض الأعضاء مترددون في اجتهادهم خوفًا من النقد، ولقد تُلي القرآن قبل الخليل بن أحمد من دون شكل، ولما شكّل الخليل بن أحمد القرآن لم يتعرض له خليفة أو وزير، ولم يحاسبه أحد عما فعل. وأؤكد أنه لم يرَ أحد من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) نصًّا من القرآن مشكولًا، ولم يُشكل القرآن إلا بعد قرن من الزمان”.

مقال المعركة

ظل طه حسين يطرح فكرته الرامية إلى إدخال تعديلات على اللغة العربية، من شأنها تبسيط اللغة على الناطقين بها والدارسين لها، في جلساته الثقافية المتنوعة وخاصة صالون الأربعاء الشهير إلى جانب مقالاته بالصحف وفوق ذلك في اجتماعات مجمع اللغة العربية.

ونالت فكرة عميد الأدب العربي، التي سبقه إليها مفكرون آخرون في العصر الحديث مثل أحمد لطفي السيد، تأييد البعض لكنها لاقت رفض الأكثرية من المؤثرين في الشأن الثقافي والقائمين على مجمع اللغة وقتئذ، وهو ما دفع المفكر المصري إلى كتابة مقال تتوافق قواعده اللغوية مع دعوته.

في يوم السابع من يونيو/حزيران عام 1956 جاء العنوان الرئيسي بالصفحة الأولى لجريدة الجمهورية مثيرا لقراءة مقال عميد الأدب العربي الذي سيُنشر في اليوم التالي، وكان المانشيت “طه حسين يقوم بانقلاب في رسم حروف الكتابة العربية”، يليه عنوان توضيحي “مصطفا أعطا موسا هاذا الكتاب.. طه حسين ينفذ الانقلاب غدا”.

 

وشرحت الصحيفة في خبرها الرئيس “كتب مقالا ورسم حروف المقال على قاعدة جديدة تهدف إلى رسم الكلمات العربية كما ننطقها، فنلغي الألف المقصورة ونستبدل بها الألف الظاهرة في كل كلمة مثل مصطفى فتصبح “مصطفا” وأعطى فتصبح “أعطا”، ونثبت حرف المد في جميع الكلمات التي جرى العرف على إغفال هذا الحرف في كتابتها.. “هذا” تصبح “هاذا” و”هؤلاء” تصبح “هاؤلاء”، ونلغي كل حرف لا ننطقه في الكلمة مثل حرف الألف الأخير في فعل كانوا فيصبح كانو”.

وأوضحت الجمهورية انتهاء النقاشات والبحوث بين علماء اللغة إلى رفض إدخال أي تعديل على رسم الكلمات العربية، وهو ما قرر على إثره طه حسين أن ينفذ اقتراحه بشكل عملي وينشر مقالاته بالرسم الجديد على جمهور القراء.

في اليوم التالي نُشر مقال صاحب كتاب “الأيام”، وحمل عنوان “خصام في غير موضع”، وفي مقدمته هذا التنويه “ليس في هذا المقال خطأ مطبعي والاختلاف مقصود”.

لم يتضمن المقال أي إشارة إلى قواعد اللغة العربية ومحاولات تبسيطها، بل كان موضوعه عن تعليم الدين واللغة العربية والتاريخ المصري في المدارس الأجنبية بمصر.

إضعاف اللغة

بعدما نشر حسين مقاله بجريدة الجمهورية سارعت أقلام عدد من المفكرين إلى الرد على دعوة تبسيط قواعد اللغة، ومن ضمنها قلم المفكر عباس العقاد الذي اختار الصحيفة نفسها ليأتي رده من خلالها.

قال العقاد إن الطريقة المقترحة بكتابة الكلمات كما ننطقها ستوجد إشكالات أكثر من التسهيلات التي ظن طه حسين أنها ستؤدي إليها، وتوقع إضعاف موقف العربية أمام اللغات الأجنبية وإلقاء بذور الفساد الأولى للقضاء على كيان اللغة.

واستطرد “افرض أنك كتبت جملة «فلان على الجبل» هكذا «فلان علا الجبل» فكيف نقرأ الجبل بعدها؟ وماذا يكون المعنى المحدد الذي تقصده من هذه الجملة؟ هل هو علا الجبل بمعنى أنه ارتفع؟ أو علا الجبل بمعنى أنك علوته؟”.

واتهم العقاد عميد الأدب العربي بأنه يريد التغيير فقط من أجل التغيير، واختتم “إن هدفنا دائما هو التغيير لمجرد التغيير، فمثلا لو مشى واحد منا على يديه لصفقنا له ولأخذنا في تقليده، وهذا ما يمكن إطلاقه على هذه البدعة”.

ودفاعا عن صاحب كتاب “على هامش السيرة”، ردّ الناقد والكاتب الصحفي رشدي صالح على العقاد متهما إياه بعدم فهم دعوة العميد أو فهمها من أضيق الزوايا لذلك سارع برمي الحجارة كما ينبغي أن تقذف كل تجربة جديدة بالحجارة.

وتساءل صالح في مقال صحفي: “لست أدري لماذا استحقت دعوة طه حسين أن يرجمها العقاد قبل أن يدرسها وبغير أن يتقدم هو بحل عملي لصعوبة الإملاء؟”، موضحا أن تبسيط اللغة يمتد إلى كيفية محو الأمية وإيجاد مستوى عام يسير تقترب فيه الكتابة من العربية المنطوقة.

واستمر النقاش والجدل الذي انتهى مع الوقت بإخفاق الدعوة لتبسيط قواعد اللغة بل بعدول مطلقها عن الكتابة المبسطة التي روّج لها، مكتفيا بتوقيع اسمه تحت مقالاته بالطريقة نفسها “طاها حسين”، غير أن الوقت كان كفيلا أيضا بعودة عميد الأدب العربي إلى توقيعه المتعارف عليه “طه حسين” حتى وفاته في 28 أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.