محمد الصراف – العراق

 

“كنت آمل أن أجد فرصتي في مدينة الموصل لكن بعد تخرجي خابت هذه الآمال بسبب التهميش وعدم الاهتمام من قبل الجهات المعنية لذا قررت أن أغادر العراق عندما قال لي صديقي المقيم في السويد إنك موهوب لما لا تحاول الهجرة إلى السويد.. فهنا يهتمون بالفنانين والمبدعين، فكرت في الموضوع ووافقت ثم أرسل لي دعوة وسافرت إلى السويد.. بعدها بدأت برسم لوحاتي وبيعها فكانت تجني لي كثيراً من الأموال، كنت أبيع اللوحة الواحدة بسعر 30 لوحة في العراق.”

يقول علي محمد، أحد الفنانين الذين تخرجوا من كلية الفنون الجميلة في جامعة الموصل.

ومحمد هو واحد من بين عديد من الموهوبين وأصحاب الاختصاص الذين اختاروا مغادرة نينوى أو مغادرة البلاد بشكل نهائي.

حتى باتت هجرة العقول والأدمغة تحديا ملموس الأثر لدى المجتمع الموصلي، ولا سيما مع زيادة عدد المهاجرين في الفترات المضطربة بداية من الفترة التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مرورا بفترة الحرب الطائفية، وانتهاء بسقوط المدينة في يد تنظيم داعش عام 2014.

يمكن تعريف هجرة العقول الموصلية على أنها خسارة المدينة لعلمائها ومتخصصيها وقادتها في مختلف فروع العلوم، حيث يساهم هؤلاء بخبراتهم في بناء اقتصادات بلدان المهجر بينما يترك غيابهم ثغرات في البنيان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في مدنهم الأم…ولا سيما في مدينة تحاول التعافي من آثار الحرب كنينوى.

وبحسب مؤشر هجرة العقول وفق تقرير لموقع Global Economy المتخصص بدراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، احتل العراق المرتبة الرابعة في قائمة بلدان العالم العربي بهجرة العقول بنسبة 6.4 بالمئة من سكانه الأكثر تعليما.

كما تشير دراسة ليونسكو إلى هجرة نحو 10 آلاف متخصص من العراق في كل عام، ويؤثر ذلك على الاختصاصات الهندسية والطبية والعلمية في مجالات متعددة، الأمر الذي يشي بانعكاسات سلبية على مستوى تطور المجتمع وتقدم البلاد.

يضيف علي محمد ” في البيئة الجديدة، قمت بتطوير مهاراتي، فأتقنت الرسم بواسطة الأجهزة الإلكترونية واكتسبت كثيراً من المهارات، إلى أن تمكنت من فتح شركتي الخاصة لبيع اللوحات وتدريب الرسامين لعراقيين المتغربين مجاناً…”

لا يفكر محمد في العودة إلى العراق …لقد خلق لنفسه “حياة كريمة في الدولة التي هاجر إليها” بحسب وصفه، ولكنه يأمل بالعودة إلى الموصل يوما ما، ويأمل أن تتمكن الحكومة من احتضان الشباب أمثاله ودعمهم في تقديم منجزهم الفني قبل أن يتخذ مزيد منهم قرار الهجرة.

من جهته، يرى وعد إبراهيم الخليل، رئيس قسم بناء القدرات في مركز بناء السلام والتعايش السلمي في جامعة الموصل، أن هجرة العقول الموصلية كانت وما زالت مستمرة بنسب متفاوتة من بعد 2003 ولغاية اللحظة بحسب الظروف التي شهدها العراق، والتي امتدت لعشرين عاماً، مؤكداً أن عدم الاستقرار من أكثر الأسباب التي تقلق العقول وتدفعها إلى الهجرة مستذكراً بذلك بداية التغير عام 2003 عندما تدهور الأمن وبدأت حمالات التهديد والاغتيالات تطول الكفاءات مما اضطرها إلى مغادرة البلاد وأضاف الأمير أن كلما كانت فرص السلم المجتمعي كبيرة في نينوى كلما فتح المجال لإعادة بعض هذه العقول إلى مناطق سكناها والعكس صحيح.

ويشير الخليل إلى أن كثيراً من هذه العقول النيرة أبدعت في مجال تخصصاتها في دول المهجر، بينما كان من الأولى أن تكون مبدعة داخل وطنها لتسهم في مسيرته العلمية وتحدث طفرات نوعية في مجالات متعددة مثل الطب والهندسة والكهرباء وغيرها من التخصصات التي يحتاج إليها العراق بشكل كبير في المرحلة الراهنة.

 

أسباب هجرة العقول العراقية

بحسب الخبير الاجتماعي الأستاذ الدكتور وعد إبراهيم الخليل، تتعدد أسباب هجرة العقول في العراق عموما ومدينة الموصل خصوصا إلا أن أهم الأسباب كانت في مقدمتها عدم الاستقرار السياسي، الطائفية، كثرة النزاعات  والحروب وفقدان الأمن، تردي الدخل المادي والواقع الاقتصادي، وجود سياسة مردّها غياب الاستقرار واستمرار الصراعات الدامية كتلك التي شهدتها مدينة الموصل والتي كانت أحد أسباب هجرة بعض العقول إضافة إلى عدم تهيئة بيئة مناسبة تشجع على النجاح في الداخل العراقي، عدم وجود ملاذ آمن يحمي هذه الكفاءات من العنف واستهداف حرية الإبداع.

على الجانب الآخر، تقدم الدول المستقبلة للعمالة الأجنبية، تسهيلات للكفاءات المهاجرة مما يحفزها على الاستقرار في الدول المستضيفة، فضلا عن الاندماج بالمجتمعات الغربية وما يفرزه من حلقات تواصل كالزواج والاستقرار الاجتماعي، في الوقت الذي تعاني فيه مجتمعاتهم الأصلية من سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنموية ونقص الإمكانات كحال أغلب بلدان العالم النامي.

يضيف الخليل أن “عدم شمولية عمليات التخطيط للقوى العاملة وعدم توافق السياسات التعليمية مع احتياجات التنمية بالإضافة إلى ضعف عمليات البحث العلمي، وقلة الإمكانات المتاحة له، والسياسات التنموية. كما أن تعقيد الإجراءات في الأجهزة الإدارية، كالمحاباة، والمركزية، وضعف المقدرة على اتخاذ القرارات، ووجود فساد متعلق بالنواحي المالية والإدارية، وعدم تقدير العلماء في بعض الدول، أو توفير الظروف المناسبة لهم، إلى جانب عدم الثقة في أفكارهم الجديدة، ومعاناتهم من عدم وجود تخصصات تناسب مؤهلاتهم العلمية. هذه العوامل كلها قد لعبت دورا في زيادة أعداد المهاجرين من أصحاب الكفاءات.”

فيما توفر عديد من دول المهجر بدائل أفضل لأصحاب الكفاءات، تشمل بيئة مستقرة سياسيا واجتماعيا وأمنيا، فضلا عن تقديم كافة المغريات لسد النقص الحاصل؛ نظراً لانخفاض أعداد ذوي الاختصاصات التقنية والعلمية في تلك الدول ، فسياساتها وتشريعاتها مشجعة ومحفزة للأفراد المتخصصين، وذوي الكفاءات؛ وذلك بهدف جذبهم إليها مع تزايد نسبة الطلب على العمالة المتخصصة في سوق العمل

جذور المشكلة: مراحل هجرة العقول العراقية

في دراسة للأستاذ الدكتور ستار جابر الجابري قسم فيها المراحل التي شهدت هجرة العقول العراقية إلى 4 مراحل، بدأت أول مرحلة في المدة بين عامي 1940 و1968 مع هجرة اليهود العراقيين، الذين كانوا يشكلون جزءاً كبيراً من الكفاءات العلمية والطبية والثقافية، ولما غادروا البلاد تركوا فجوة في المجال العلمي، وموجة أخرى عام 1958 بعد تغيير نظام الحكم الملكي إلى جمهوري وما تبع ذلك من صراعات على السلطة عام 1963، إذ هاجرت أعداد من الكفاءات العلمية العراقية.

المرحلة الثانية من 1968 إلى 1979 بعد تزايد الصراع السياسي في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث تزايدت بشكل ملحوظ هجرة العقول العراقية بعدما فضل كثير من الطلبة الذين أنهوا دراستهم في الجامعات الغربية البقاء في تلك الدول.

وحدثت المرحلة الثالثة خلال الحقبة بين 1980 و2003، فبعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في عام 1980 ازداد مستوى الهجرة للكفاءات العراقية، ولاسيما بعد زج كثير من الأساتذة الجامعيين والكفاءات العلمية في أتون الحرب، حيث ازدادت هجرة العقول العراقية بسبب التوترات السياسية، وفضل بعضهم البقاء في الخارج بعد دراستهم هناك. وكانت العوامل السياسية السبب الرئيسي للهجرة في تلك الفترة.

المرحلة الرابعة هي مرحلة ما بعد 2003 عقب سقوط النظام السابق على أيدي القوات الأميركية، حيث سادت الفوضى السياسية والأمنية والاقتصادية، ولاسيما من أواسط عام 2004 حتى أواسط 2007، إذ اشتد الصراع الطائفي والسياسي في آن واحد، حتى وصل الأمر إلى أن الشعب العراقي أصبح على شفا حرب أهلية.

وتشير إحصائيات إلى أن عدد الأساتذة الجامعيين الذين اغتيلوا منذ الغزو الأميركي حتى نهاية عام 2006 بلغ 460 أستاذاً، وعدد الأطباء خلال المدة ذاتها بلغ 720 طبيباً بين قتيل وجريح، وقد وثقت الحملة الإسبانية لمناهضة الاحتلال الأميركي أسماء 324 أكاديمياً عراقياً قتلوا ما بين الأعوام 2005- 2013.

ويرى مراقبون موصليون أن استمرار ظاهرة هجرة العقول يعد استنزافا لمقدرات المدينة لما تخلفه من مشاكل كتفشي الجهل والتطرف داعين الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني بضرورة اتخاذ الحلول المناسبة للحفاظ على ما تبقى منها لافتين إلى أن  المدينة خرجت من حرب طاحنة عام 2017 دمرت كل شيء وهي الآن بأمسّ الحاجة إلى هذه الكفاءات لتنهض وتعود من جديد

ويقترح مختصون تشريع قانون خاص بالكفاءات العلمية العراقية على أن لا يتعارض مع مبدأ حرية الانتقال والتعلم، و يحفظ على أقل تقدير أولوية الدفاع عن المصالح الاجتماعية التي ستهدر نتيجة تلك الهجرات النوعية وتأسيس هيئة أو دائرة تعنى بشؤون الكفاءات العلمية المهاجرة على أن يكون ارتباطها بوزارة الهجرة والمهجرين أو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أو وزارة الخارجية  وتحسين الظروف الاقتصادية والمالية للكفاءات العلمية من حملة الشهادات العليا وإجراء مسح شامل للكفاءات المهاجرة المستقرة في المهجر للتعرف على أعدادهم ومواقع اختصاصها، وتعزيز دور المراكز البحثية مع تخصيص ميزانية خاصة لها.

وفي السياق نفسه، يقترح الخليل تسليط الضوء على الكفاءات والعقول النيرة التي قررت العودة إلى العراق، من أجل تشجيع الآخرين على اتخاذ خطوات مماثلة، مشدداً على أن عودتها ستساهم في زيادة فرص الاستثمار والبناء داخل نينوى وعموم البلاد.

 

 

المصادر:

– مقابلات صحفية أجراها الصحفي

 

– دراسة أ.د ستار جابر الجابري تحت عنوان “هجرة الكفاءات العراقية الأسباب والمعالجات” نشرت في مجلة الدراسات الدولية الصادرة عن جامعة بغداد، مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية

https://jcis.uobaghdad.edu.iq/index.php/politics/article/view/116

 

– تقرير منشور في وكالة شفق نيوز يتناول هجرة الأدمغة العراقية تحت عنوان “العراق رابعاً.. هجرة جماعية للعقول من الدول العربية إلى الخارج”

https://shafaq.com/ar/%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9%D8%A7-%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%88%D9%84-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC