يأتي اسم ريدلي سكوت محملا بتاريخ سينمائي طويل وجوائز متعددة عن أفلام أيقونية لا تُنسى، مثل “المجالد” (Gladiator) و”ثيلما ولويز” (Thelma & Louise) و”بليد رانر” (Blade Runner). ولكن على مر السنوات فقدَ المخرج الكثير من ألقه السابق بمشاريع رغم ضخامتها من حيث الميزانية والنجوم لم تتشابه مع ما قدمه سابقا على المستوى الفني.
وقد انتظر جمهور السينما هذا العام أحدث أفلامه “نابليون” الذي يبدو من أول وهلة كما لو أنه عودة قوية لـ”سكوت” في فيلم ينتمي إلى الأفلام الحربية التي برع فيها سابقا، خصوصا مع قيام الحائز على جائزة أوسكار “خواكين فينكس” بدور البطولة. ولكن حتى كتابة هذه السطور، لم يستطع الفيلم تحقيق إيرادات تغطي ميزانيته.
وحصل الفيلم على تقييم منخفض نسبيا بلغ 58% من الجمهور والنقاد على حد سواء، فقد مدح المشاهدون على موقع روتن توماتوز “التمثيل الرائع ومشاهد الأكشن”، ولكن عابوا عليه عدم قدرته على “تقديم صورة كاملة للرجل رغم وقته الطويل”. وعلى نفس الموقع أجمع النقاد على أن الفيلم “ملحمة مضحكة”.
يتخذ الفيلم من تاريخ القائد الفرنسي “نابليون بونابرت” بطلًا لأحداثه، حيث يتناول الفترة ما بين عام 1793م مع اندلاع الثورة الفرنسية التي مهدت لنابليون بالصعود للسلطة، وينتهى بوفاة الأخير بعد هزائمه المتعددة سواء خارج بلاده أو حتى داخلها.
تاريخ نابليون درامي للغاية، بصعوده على أكتاف الثورة التي أطاحت بالحكم الملكي، ثم تنصيبه هو شخصيا إمبراطورا، وانشغاله بإنجاب وريث له على عرش فرنسا؛ العرش نفسه الذي فقده سريعا بصورة أكثر درامية.
وألهمت سيرة نابليون الفنانين بالعديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، وحتى اللوحات، لذلك فإن أول سؤال سيُطرح قبل مشاهدة هذا الفيلم هو: كيف سيقدم ريدلي سكوت قصة نابليون التي يعرف تفاصيلها أغلب المشاهدين؟
اختار سكوت تقسيم فيلمه سرديا إلى خطين متوازيين، الأول يتناول المعارك الحربية التي يخوضها نابليون وجيوشه، والثاني علاقته المتقلبة بزوجته “جوزفين” النبيلة الفرنسية التي تَعرّف عليها بعد أن جردتها الثورة من مكانتها الاجتماعية وقتلت زوجها ووأوشكت على وضعها على المقصلة.
وفي الأحوال التي تُقدِّم فيها الأفلام خطوطا سردية متعددة، يحرص صناع العمل على التوازن بينها، فلا يبدو الفيلم كما لو أنه منقسم إلى فيلمين منفصلين، الأمر الذي ظهر مع فيلم نابليون الذي يمكن حذف معاركه ليصبح قصة عشق وخيانة على شاكلة المسلسلات التركية، ويمكن حذف هذه العلاقة وتبقى السيرة الخاصة بقائد عسكري قل نظيره.
انعكس عدم التوازن هذا على كل عناصر الفيلم، فعلى سبيل المثال هناك تضاد واضح بين تصوير المشاهد الحربية ومشاهد القصور، فالأولى واحدة من أهم نقاط قوته، حيث برع ريدلي سكوت كالمعتاد في التخطيط للمعارك وحركة المجاميع، فجاءت خاطفة للأنفاس، خاصة المعركة الأخيرة بين الجيشين الفرنسي والبريطاني، والمعركة على حدود روسيا والثلج الذي يتكسر تحت أقدام الجياد والمحاربين والتي تعيد للأذهان أجمل المشاهد من أفلامه السابقة مثل “المجالد” و”مملكة الجنة” (Kingdom of Heaven)، أما مشاهد القصور التي جمعت بين نابليون وزوجته فجاءت باهتة، وقد ركزت فقط على ولع الإمبراطور بجوزفين كمراهق، وخيانات الأخيرة المتعددة، وعدم قدرتها على إنجاب وريث.
ويتوقع المشاهد من فيلم يحمل اسم أحد أهم القادة العسكريين في التاريخ أننا أمام عمل مدفوع بتطور الشخصية، ولكن ما حدث في فيلم نابليون هو العكس تماما، فلم يقدم سوى ولعه بكل من جوزفين والسلطة، والتي ينقلب من أحدهما للآخر دون أي تمهيد.
لم يعط سيناريو “ديفد سكاربا” للشخصية أي أبعاد حقيقية، فقط مزية واحدة وعيبا واحدا، وترك الممثل “خواكين فينكس” عاجزا عن الحركة، الأمر الذي أدى إلى تخبط كبير واعتماده في أجزاء كثيرة على شخصياته التي مثّلها من قبل، فاستعار ولع “كومودوس” بالسلطة من فيلم “المجالد”، ولمحات من جنون “جوكر” (Joker)، والحب المريض من شخصية “جوني كاش” الذي قدمه في فيلم “السَّير على الصراط” (Walk the Line)، ولكن كلها ظهرت غير أصيلة أو متصلة بالفيلم.
واشتهر ريدلي سكوت باهتمامه بالشخصيات النسائية في أفلامه، بل تخصيص بعضها لهن فقط مثل “ثيلما ولويز”، إلا إنه في فيلم “نابليون” أعطى مساحة واسعة للإمبراطورة “جوزفين” التي قدمتها “فانيسا كيربي”، ولكن دون أي مقومات حقيقية للشخصية تساعد الممثلة على استغلال هذه المساحة. فجوزفين الفيلم ليست سوى امرأة شديدة الجاذبية مولعة بجمالها وإعجاب الآخرين بها والسلطة التي حصلت عليها بسبب علاقتها بنابليون، شخصية أحادية تماما دون تعقيدات تتعلق بالتمييز بين الخير والشر، فجاءت هذه الفرصة وبالا على الممثلة عوضا عن أن تصبح نعمة تدفع بمسيرتها الفنية إلى الأمام.
يصعب التشكيك في موهبة ريدلي سكوت بعد هذه المسيرة الغنية بالأعمال والتي أثرت في الآلاف من محبي السينما، ولكن يمكن التشكيك في قدرته على التطور والحفاظ على استمرارية هذه الموهبة، فقد تأرجحت أعماله في السنوات الأخيرة بين الجيدة فقط والمخيبة للآمال، ويجمع بينها كلها أنها أفلام ذات ميزانية كبيرة من بطولة ممثلين مشاهير، ولكن بسيناريوهات تبدو غير مكتملة وشخصيات غير متطورة بما فيه الكفاية، فقد أخفق نقديا وتجاريا أحدث أفلامه “بيت جوتشي” من بطولة نجوم مثل “آل باتشينو” و”ليدي غاغا” و”آدم درايفر”.
ويمثل فيلم “نابليون” خطوة متعثرة جديدة في مسيرة ريدلي سكوت، فيلم يتأرجح طوال الوقت بين الجد والهزلية، فنجد المشهدية الرائعة في المعارك الحربية واضطرابات العلاقات الزوجية في مشاهد القصور جنبا إلى جنب، فيلم حرم أبطاله من شخصيات مرسومة بدقة، فأخفق في الاستحواذ على إعجاب النقاد والمشاهدين.