هي قصة حقيقية تحاكي حياة الكاتب والمخرج الشاب أمين نايفة، الذي اختار في فيلم “200 متر” تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين في ظل جدار الفصل العنصري انطلاقاً من تجربةٍ عاشها خلال طفولته، ولا تزال محفورة في ذاكرته.
يرفض مصطفى (الساكن في الضفة الغربية) الحصول على الهوية الإسرائيلية باعتباره من فلسطينيي الـ48، ما يكلّفه غالياً. فيضطر إلى تحمّل أعباء رحلةٍ شاقة وطويلة شبه يومية نحو الحاجز الحدودي الإسرائيلي، لرؤية زوجته وأولاده، رغم أن المسافة بينهم لا تتجاوز 200 متر.
يلامس فيلم 200 متر الواقع الفلسطيني ويشرّح حياة الفرد في ظلّه بدقةٍ متناهية، مبتعداً عن السردية النمطية. فتظهر معاناة الفلسطيني الحقيقية مع الحصار الإسرائيلي الذي لا يضيّق عليه الحياة وحسب، بل الأحلام أيضاً، ليتخذ الجدار رمزية الحائط الذي يقف بينه وبين طموحاته.
فأي أحلامٍ يطمح إليها هذا الذي يصارع يومياً للحصول على تصريحٍ يسمح له بزيارة عائلته، بعد ساعاتٍ من الانتظار قد لا تنتهي بنيله التصريح، فيضطر للجوء إلى مواصلات غير شرعية (التهريب) باهظة الثمن، ثم ينتبه أن نهاره شارف على النهاية.
قصة فيلم 200 متر
يبدأ فيلم 200 متر بمشهدٍ لمصطفى (علي سليمان) وهو يقف متأففاً من الآلام التي يعانيها في ظهره، قبل أن نراه ممداً على سريرٍ لتُدلّك له زوجته سلمى (لانا زريق) ظهره، في منزلهما الذي يبدو اعتيادياً قبل أن تبدأ سلمى بتجهيز نفسها لمغادرة المنزل.
فنكتشف أنها لا تعيش هي وأطفالها في هذا المنزل، بل عليها أن تلحق عبور الحاجز قبل موعد إغلاقه، لأنهم يسكنون في الطرف الآخر من الجدار، مقابل بيت زوجها ووالدته.
ومنذ بداية فيلم 200 متر نعرف أن حياة هذه العائلة تعتمد على عمل مصطفى في الداخل المحتل كعامل بناء، وعلى زوجته التي تعمل في وظيفتين بالجهة المقابلة، للحفاظ على المنزلين بالتوازي.
ستكبر تعاسة هذه العائلة تدريجياً وتدور في مساحة 200 متر، التي تفصل المنزلين عن بعض، والتي يمكنها أن تكون المسافة التي تفصل المشاهد عن أقرب دكان، هي في الواقع الفلسطيني مختلفة لأن الأبواب مغلقة، ووسائل العبور شرطية ومقيّدة بأوقاتٍ معيّنة.
هذا الذل والألم الذي يتحمّله الفلسطيني في واقع الحصار الإسرائيلي يتجلى لنا على شكل ألم الظهر الذي يعاني منه مصطفى، والذي يحاول طيلة الفيلم التغلّب عليه أو الالتفاف عليه، تماماً مثل الفلسطيني الذي يحاول الالتفاف حول حياته قبل أن تلتف عليه.
يحبس فيلم 200 متر أنفاسنا، فنشعر كمشاهدين أننا أمام قنبلةٍ موقوتة قد تنفجر في أي لحظة. ويبدأ فتيل هذه القنبلة بالاشتعال عندما يدخل ابن مصطفى إلى المستشفى، فيحاول الأب أن يجد طريقة للعبور إلى الجهة الأخرى.
ما يميّز فيلم 200 متر أنه واقعي جداً، لدرجة أن بعض شخصياته لا تجسّد صورة الفلسطيني المقاوم، وهنا لا بد من الإشارة إلى الأداء التمثيلي المذهل لجميع أبطال الفيلم، لاسيما علي سليمان ولانا زريق (مصطفى وزوجته سلمى).
تعيش سلوى صراعاً داخلياً بين حبها لزوجها، وتحميله مسؤولية الشتات الذي يعيشون فيه، بسبب رفضه الحصول على الهوية الإسرائيلية. وسنراها تلوم مصطفى علانية في أحد مشاهد الفيلم، قائلةً له: “الحق عليك إنت لأنو كان عندك فرصة إنك تطلّع هوية إسرائيلية، بس رفضت”، ليردّ عليها صارخاً: “ما بديش الهوية”.
بين الواقع الفلسطيني والتمثيل
رغم أن فيلم 200 متر هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج والكاتب أمين نايفة (33 عاماً)، إلا أنه نال استحساناً كبيراً على الصعيدين العربي والعالمي.
فقد حصد 5 جوائز في مهرجان الجونة السينمائي، وجائزة الجمهور في مهرجان فينيسيا، إضافةً إلى جائزة أفضل فيلم روائي طويل ضمن فعاليات الدورة الأولى من مهرجان القدس للسينما العربية.
كما كرّمت مجلة Variety الأميركية منتجة الفيلم الفلسطينية، مي عودة، بجائزة “أفضل موهبة عربية للعام”؛ وهي المرة الأولى التي تُمنح فيها هذه الجائزة إلى امرأة.
بدأت فكرة الفيلم في عام 2010 أثناء دراسة أمين نايفة الجامعية، حين طُلب منه أن يحضّر أفكاراً جديّة لأفلامٍ سينمائية قد يتم تنفيذها، فكان “200 متر” إحدى هذه الأفكار. لكنه واجه صعوبات عديدة قبل أن يبصر النور، لاسيما من ناحية التمويل.
استغرق البحث عن تمويل للفيلم 7 سنوات تقريباً، فقدَ فيها أمين الأمل مراتٍ عدة، لكنه تمسّك بقصته لأنها تحاكي واقعاً عاشه لسنوات، حين انقطع عن أهله في الداخل رغم أنهم يبعدون عنه مسافة 20 دقيقة.
واللافت أن المخرج والكاتب أمين نايفة أصرّ على أن يجسّد الممثل علي سليمان دور البطل مصطفى؛ لأنه من فلسطينيي الـ48 ويعرف المعاناة جيداً، رغم أنه شخصية عرفت طعم النجومية العالمية بعدما شارك في أعمالٍ سينمائية وتلفزيونية حققت نجاحاً كبيراً.
من Paradise Now (إنتاج عام 2005)، وBody Of Lies (إنتاج 2008) مع ليوناردو دي كابريو وراسل كرو، وLone Survivior (عام 2013) مع مارك والبيرغ، استطاع سليمان أن يسجّل اسمه كواحدٍ من أبرز الممثلين الفلسطينيين في العالم.
ورغم ذلك، ما زال علي سليمان شغوفاً بدعم السينما الفلسطينية والمشاركة فيها، كما أنه لا يساوم على حق الفلسطينيين في أرضهم، بل يؤكد دوماً على انتمائه للقضية الفلسطينية.
ففي مقابلةٍ له مع إذاعة “موزاييك fm” التونسية، عقب أحداث حي الشيخ جراح عام 2021، يقول: “لم تنتهِ النكبة عند عام 1948، فقتل الأولاد لم يتوقف وقصف المباني فوق رؤوس الأبرياء لم يتوقف”.
ويتابع قائلاً: “نحن شعب تحت احتلال ونقاوم الاحتلال، لسنا دولتين تتنازعان على حقوق. سنستمر في وجودنا؛ لأن وجودنا مقاومة، وكل مخطط صهيوني لتهجيرنا من هنا مصيره الفشل المحتم، فنحن مرابطون هنا حتى التحرير”.
وحين سُئل عن خوفه من تأثير موقفه على انتشاره العالمي، أجاب: “هذه قضيتي وهذا شعبي، فلتذهب النجومية والتمثيل إلى الجحيم مقابل قضيتي، فلتذهب النجومية فداءً للتحرير”.
شخصية مصطفى -التي يجسّدها علي سليمان- قد تُشبه أي رجلٍ فلسطيني يعيش في الداخل، واللافت أننا سنتعاطف معه كلما أمضينا وقتاً أطول معه، مع أنه يكره الشفقة.
هو شخصية واحدة، لكنها تعلّمنا الكثير عن مجتمعٍ بأكمله، وملفتة التفاصيل التي تمّ التركيز عليها في كتابة شخصية مصطفى.
سنبتسم متأثرين بالمشهد الذي يتحوّل إلى روتين يومي يمارسه مصطفى مع أولاده، حين يحدّثهم مساءً على الهاتف، وهو واقف على الشرفة قبالتهم -يفصل بينهم الجدار العنصري- فيُطفئون الضوء مرات عدة ليراهم، ثم يفعل الأمر نفسه، قبل أن يتمنى لهم ليلة سعيدة.
لا يستجدي مصطفى تعاطفنا، بل يحاول أن يشرح لنا معاناة الفلسطينيين اليومية في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي الذي يخنقهم ويسبّب شرخاً بينهم، ومع ذلك يُضطرون للتعامل معه وسط غياب أي فرصة لتجنّبه.
يحوّل فيلم 200 متر جدار الفصل العنصري إلى إحدى شخصيات الفيلم الرئيسية الشريرة، التي تنغّص حياة الفلسطينيين وتمنع عنهم حق التنقل والعيش ببساطة، والتي تستغل نفوذها في استقطاب المهرّبين والباعة المتجوّلين للاستفادة من الضغط الذي يعيشه الفرد الذي ينتظر لساعات حتى يقطع الجدار.
مثّل الجدار عقبة الفيلم الأساسية والحاجز الذي يردع الفلسطينيين عن حياتهم وأحلامهم، والذي لا سبيل للانتصار عليه. وصحيح أن الفيلم ينتهي بشكلٍ تبدو فيه النهاية سعيدة، لكنها ستتركنا كمشاهدين أمام التفاصيل البسيطة التي تؤثر بشكلٍ كبير على حياة الفرد.