في 17 يوليو/تموز 1983، نشرت صحيفة هندية صغيرة مؤيدة للاتحاد السوفياتي تدعى “باتريوت” (Patriot) مقالاً في صفحتها الأولى بعنوان “الإيدز قد يغزو الهند: مرض غامض تسبّبه التجارب الأميركية”. استشهد المقال برسالة من مجهول، واستُخدم لاحقا كمصدر لقصة صحفية في أكتوبر/تشرين الأول 1985 في جريدة “ليتراترانيا غازيتا” (Literaturnaya Gazeta)، وهي جريدة روسية أسبوعية كانت واسعة الانتشار في ذلك الوقت.

عُرض المقال في العام التالي على الصفحة الأولى لجريدة بريطانية معروفة بأخبارها المثيرة. وبحلول عام 1987، كانت القصة الصحفية انتشرت في الصحف الكبرى في أكثر من 50 دولة.

وعلى الرغم من خروج خبراء وعلماء موثوق بهم من بلدان مختلفة لنفي الفكرة القائلة إن الإيدز مرض “مُصَنَّع بشريا”، بقيت تلك الفكرة سائدة في عقول الجماهير.

تحيل تلك القصة إلى ما يعرف بـ”نظرية المؤامرة” التي ارتبطت بالعديد من الأحداث في السنوات الماضية، كان أحدثها وباء “كوفيد-19” الذي يعتبر مرضا “مُصَنّعا بشريا” من أجل القضاء على البشر وإنقاذ موارد الكوكب لمصلحة مجموعة مختارة من البشر، بحسب مؤيدي تلك النظرية.

ولم يتغير مفهوم التلاعب بالمعلومات عبر الزمن، لكن السرعة التي تنتشر بها الأخبار وحجم التأثير الهائل يختلف تماما في العصر الحالي. وتفاقم تأثير التضليل بسبب الاقتصاد القائم على الإعلانات في وسائل التواصل الاجتماعي، سواء كانت تلك الإعلانات من أجل الربح المادي أو السيطرة السياسية وزرع حالة من الشك وعدم اليقين في حكومة أو مؤسسة أو حتى شخص ما.

ففي أي وقت نسجل فيه الدخول إلى حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي أو إلى بريدنا الإلكتروني فإن الخوارزميات في أجهزة الحاسوب تربط هذه البيانات ببيانات أخرى وتستغل بياناتنا الشخصية من أجل التأثير علينا.

في كتابه “10 أسباب لحذف حساباتك على وسائل التواصل الاجتماعي”، يناقش جارون لانييه المتخصص في علم الحواسيب، الاستخدام المشكوك فيه للبيانات الشخصية من جانب أصحاب المواقع من أجل اكتشاف معلوماتك التي لا ترغب في نشرها، حتى يمكنهم جذب انتباهك لتتأثر بالمعلنين والسياسيين والفنانين والعملاء الآخرين الذين يدفعون من أجل أغراضهم المختلفة.

تجمع المواقع معلومات قد لا يتخيل أحد أنها ذات قيمة أو يمكن الوصول إليها، بما في ذلك تعبيرات وجهك والطريقة التي تحرّك بها جسمك، لتعرف أين تذهب وماذا تأكل وطرق إقناعك، ثم تستخدم هذه البيانات بواسطة الخوارزميات لتظهر لك إعلانات أو منشورات مصممة طبقا لتلك البيانات.

وفي الفيلم الوثائقي “المعضلة الاجتماعية” (The Social Dilemma)، ركّز صانعو الفيلم على مخاوف التلاعب بإرادة المستخدمين من خلال وسائل التواصل. ولم تكن المخاوف خاصة بعامة الناس، لكنها مخاوف تخص مديرين تنفيذيين سابقين في وسائل التواصل الاجتماعي ومهندسين ومبرمجين، حيث ظهر في الفيلم أشخاص كانوا جزءا من إستراتيجية التلاعب، لكنهم غادروا مناصبهم لأنهم شعروا بأن عملهم غير أخلاقي.

يذكر المهندس تريستان هاريس، مصمّم الوسائط والمؤسس المشارك في مركز التكنولوجيا الإنسانية، وهي حركة تهتم بالمواءمة بين التكنولوجيا والمصالح الإنسانية، والذي كان يعمل سابقا خبير الأخلاقيات لدى “غوغل”، أن وظيفته كانت اللعب بالخطوط والألوان والتفاصيل من أجل جذب مزيد من المستخدمين لتطبيق “جيميل” على الهواتف المحمولة. وقد نجح التصميم الجديد وقتها، حتى أنه شخصيا أصبح مدمنا على متابعة رسائل وإشعارات “جيميل”.

إدراكا منه لخطر هذا السلوك، تساءل هاريس عما إذا كانت شركات التكنولوجيا تهتم بالفعل بخدمة الجماهير؟ وهل يجب على الموظفين أخلاقيا دعم ذلك التوجه الإدماني أم مكافحته والعمل على التقليل منه.

كانت أسئلة هاريس وزملائه سببا في ثورة صغيرة بمقر “غوغل”، لكن هذه الثورة لم تستمر، ولم تدفع المديرين التنفيذيين إلى تغيير نهجهم.

وعلى الرغم مما ذُكر من عيوب وسائل التواصل الاجتماعي وسيطرتها على الرأي العام والخاص، فإنها منذ تغلغلت بين الشعوب أصبحت أدوات تأثير في المجال العام، وباتت أشبه بالمقاهي والنوادي والأماكن العامة.

ومن خلال تلك الوسائط، أصبح التواصل أسهل بين مليارات الأشخاص الذين يتصفّحون الإنترنت. وتحولت تلك المنصّات إلى جزء من الحركات الاجتماعية مع مميزات كبرى، فهي تُكسب الحركات الاجتماعية تعاطفا جماهيريا كبيرا.

كما تُمكّن الشعوب من تجاوز رقابة الحكومات في بعض الأحيان، فضلاً عن منع خطر الوجود الجسدي الفعلي في الشارع، وأحيانا تجبر السلطات على اتخاذ إجراءات لمصلحة الجماهير لتجنب الغضب العام.