كان أبو الريحان البيروني موسوعةً علمية متنقلة بكلّ ما للكلمة من معنى، ولهذا لُقّب بـ”العارف بكلّ شيء”. فقد كان فلكياً، وجغرافياً، ومؤرخاً، وفيلسوفاً، وصيدلانياً، وملمّاً بالرياضيات والفيزياء أيضاً.
هو أحد أبرز رواد الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، ومؤسّس الجيوديسيا (تقسيم الأرض). والحقيقة أنه، وقبل أكثر من 600 عام على محاكمة غاليليو بسبب فكرته المدافعة عن دوران الأرض، اكتشف البيروني أن الأرض تدور وتحدث عن حركة الشمس والقمر.
عاصر البيروني الكثير من العلماء المسلمين البارزين، وزامل بعضهم في المجالس العلمية، على غرار ابن سينا، كما عاش فترةً طويلة من حياته في بلاط أمراء خوارزم وسلاطين وملوك الدولة الغزنوية.
فمن هو أبو الريحان البيروني؟
اسمه الكامل أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، وقد وُلد عام 973 بمدينة “كاث” الصغيرة، التي تقع في خوارزم (أوزبكستان حالياً)، والتي سُمّيت فيما بعد “بيروني”، تيمناً باسمه.
البيروني باللغة الفارسية تعني “الغريب”، أو الآتي من خارج البلدة، وقد سُمّي أبو الريحان بـ”البيروني” لكثرة إقامته خارج مسقط رأسه، لاسيما في الفترات التي لمع اسمه بها وصار أحد أهم فلاسفة وعلماء القرنين الـ4 والـ5.
في كتابه الشهير “الأنساب“، فسّر المؤرخ الرحالة أبو سعد السمعاني اسم البيروني، قائلاً: “بكسر الباء الموحدة، وسكون الياء آخر الحروف، وضمّ الراء بعدها الواو، وفي آخرها النون؛ هذه النسبة إلى خارج خوارزم، فإن بها من يكون من خارج البلد ولا يكون من نفسها، يُقال له: فلان بيروني.. والمشهور بهذه النسبة أبو ريحان البيروني”.
ومن المحتمل أن تكون عائلة أبو الريحان من العاملين في مجال التجارة خارج البلدة، فقد كان بعض التجار يعيشون خارج أسوار المدينة، للتخلص من نظام مراقبة دخول البضائع.
وبحسب الموسوعة العربية “المعرفة“، فإنه لا يُعرف الكثير عن حياة البيروني في طفولته ولكن من المرجح أنه لم يختلف في نشأته عن بقية الأطفال المسلمين، الذين يُدفعون إلى من يعلمهم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودراسة الفقه والحديث.
ويبدو أن البيروني قد مالَ منذ وقتٍ مبكر إلى دراسة الرياضيات والفلك والجغرافيا، كما كان شغوفاً بتعلّم اللغات -فأتقن الفارسية، والعربية، والسريانية، واليونانية- وتلقى العلوم الدنيوية على يد أبي نصر منصور بن علي بن عراق، أحد أمراء أسرة بني عراق الحاكمة لخوارزم، والذي كان عالماً مشهوراً في الرياضيات والفلك.
اضطرّ أبو الريحان البيروني إلى الهجرة في شبابه، بسبب الاضطرابات السياسية التي كانت تشهدها البلاد، فتوجّه عام 994 إلى مدينة “الري” (إحدى ضواحي طهران حالياً).
وخلال إقامته فيها، التقى العالم الفلكي أبو محمود الخجندي، وأجرى معه بعض البحوث، ثم عاد إلى بلاده وواصل عمله في الأرصاد؛ ثم لم يلبث أن شدّ الرحال إلى مدينة “جرجان” (شمال شرق إيران)، حيث التحق ببلاط السلطان أبو الحسن قابوس بن وشكمير.
كان السلطان قابوس بن وشكمير، المُلقب بـ”شمس المعالي”، أحد أمراء الأسرة الزيارية التي كانت تحكم طبرستان وجرجان التابعتين للخلافة العباسية وقتئذ. وقد كان مُحبّاً للعلم، يحفل بلاطه بجهابذة المعرفة، وتزخر مكتبته بالكتب القيمة.
وفي أثناء إقامته بكنف السلطان قابوس بن وشكمير، أنجز البيروني أول مؤلفاته المهمة في التاريخ، بعنوان “الآثار الباقية عن القرون الخالية“. وقد بقي في جرجان حتى الإطاحة بالسلطان قابوس عام 1009، حين أُرغم على التنازل عن عرشه لابنه “منوجهر”.
كيف أسّس علم الأنثروبولوجيا؟
رجع أبو الريحان إثر ذلك إلى موطنه واستقر في مدينة “جرجانية”، ثم التحق بمجلس العلوم الذي أقامه أمير خوارزم -التابع للدولة الغزنوية- مأمون بن مأمون. وكان ابن سينا، والمؤرخ والفيلسوف ابن مسكويه، يزاملانه.
في العام 1018، أرسل السلطان محمود الغزنوي بطلب البيروني وابن سينا، وغيرهما من العلماء، فكان له ذلك من باب واجب الطاعة. إثر ذلك، عاش أبو الريحان في غزنة (كابول حالياً) مشتغلاً بالفلك وغيره من العلوم.
وبسبب مرافقته السلطان خلال فتوحاته في بلاد الهند، استطاع أن يوسّع معرفته بعلوم الهند، خصوصاً بعدما عكف على دراسة لغتها، واختلط مع علمائها، واطلع على كتبهم في العلوم والرياضيات، ودرس جغرافيا البلاد، إضافةً إلى عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها.
كل تلك المعلومات عاد ودوّنها في كتابه الكبير “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة“، المعروف اختصاراً باسم “كتاب الهند“.
حتى بعد تولي السلطان مسعود بن محمود الغزنوي الحكم خلفاً لأبيه عام 1030، قرّب إليه البيروني، وألحقه ببلاطه، وأحاطه بما يستحق من مكانةٍ وتقدير؛ لدرجة أن أبو الريحان، عندما كتب موسوعته في علم الفلك، أطلق عليها “القانون المسعودي في الحياة والنجوم”، وأهداها إلى السلطان مسعود.
كان أبو الريحان البيروني مُتمكناً في كثير من العلوم، ويمكن القول إنه من مؤسّسي علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، من خلال براعته ودقة وصفه للإنسان الهندي المتبع للديانة الهندوسية، في مؤلفه الشهير “كتاب الهند”.
فقد وصف فيه عقائد الهندوسيين وشرائعهم وعاداتهم المختلفة، في الزواج والأعياد ومأكلهم وملبسهم، مستفيداً في ذلك من المعلومات الضخمة التي جمعها خلال مكوثه لسنوات عدة في البلاد ومخالطته لأهلها.
ونجد أيضاً تلك الدقة في الوصف الأنثروبولوجي بكتابه “الآثار الباقية من القرون الخالية”، والذي سرد فيه تاريخ نظم الجماعات والطوائف المختلفة، وعاداتهم وتقاليدهم السائدة، وأبرز المواضيع التي تخصهم ضمن فصول متعددة.
وتناول فيه التقويمات التاريخية التي كان يستخدمها العرب قبل الإسلام، وتواريخ الملوك من عهد آدم حتى وقته، وفيه جداول تفصيلية للأشهر الفارسية والعبرية والرومية والهندية، كما يبيّن كيفية استخراج التواريخ بعضها من بعض.
البيروني.. العارف بكلّ شيء
برع البيروني أيضاً في علم الفلك، وقد كان من العلماء السبّاقين الذين تحدثوا عن كروية الأرض. وبحسب دراسةٍ أعدّها روبرت راسل نيوتن (وهو عالم فلك وفيزيائي أمريكي) عن البيروني، أشار فيها إلى أن الأخير أول من تحدث عن كروية الأرض ودورانها حول نفسها على محور مائل وحول الشمس.
يعتبر البيروني أيضاً مؤسّس الجيوديسيا، أي علم تقسيم الأرض، وهو فرع من الرياضيات التطبيقية يُعنى بالدراسة الجيولوجية لحجم الأرض وشكلها، وقياس أجزاء واسعة من باطنها وسطحها.
وقد أجرى عدة بحوث في هذا المجال، وله رسائل علمية وكتب في توضيح قياس ورسم سطح الأرض وكيفية تعيين رسم المحيطات، وأبعاد المشاريع الهندسية، مثل: السدود، والقنوات.
اهتم كذلك بالفيزياء؛ ووفقاً لموقع “قصة الإسلام“، فمن بين المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن، وضغط السوائل وتوازنها، وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء.
وأولى ملاحظاته في هذا الشأن كانت حول تأثير تباين درجة الحرارة في دقة أجهزة الرصد، التي تطرأ عليها تغيرات في الطول والقصر في قيظ النهار وصقيع آخر الليل.
وتعرض في كتابه “الآثار الباقية عن القرون الخالية” لميكانيكا الموائع، فشرح الظواهر التي تقوم على ضغط السوائل واتزانها وتوازنها، وأوضح صعود مياه النافورات والعيون إلى أعلى مستنداً إلى خاصية سلوك السوائل في الأواني المستطرقة.
وفيما يتعلق بسريان الضوء فقد تنبه إلى أنّ سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت، واتفق مع ابن الهيثم وابن سينا في قولهما إن الرؤية تحدث عبر خروج الشعاع الضوئي من الجسم المرئي إلى العين وليس العكس. كما لفت إلى أنّ القمر جسمٌ معتم لا يضيء بذاته، وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس عليه.
البيروني كان أيضاً عالماً نباتياً وصيدلانياً، وله كتاب مهم في هذا المجال اسمه “الصيدنة في الطب” عرّف من خلاله عن مهنة الصيدلي، قائلاً: “هو المحترف بجمع الأدوية على أحمد صورها واختيار الأجود من أنواعها، مفردة ومركبة على أفضل التراكيب التي خلدها مبرزو أهل الطب، وهذه هي أولى مراتب صناعة الطب”.
وبحسب موقع إسلام أون لاين، فقد عرض البيروني في هذا الكتاب أسماء مجموعة كبيرة من الأدوية، مع شرح دور كل عنصر فيها وخصائصه، واسمه في اللغات المختلفة.
وفي شرحه للعناصر نجد أموراً يوردها في بساطة على أنها من الأمور المشهورة والمعروفة عنده، وهي مما اكتُشف حديثاً، مثل حديثه عن “الإسرنج” وهو أكسيد الرصاص الأحمر، وكيف تؤثر النار فيه، وفعل الكبريت المنصهر أو بخاره في هذا الأكسيد، وتغيُّر لون الأكسيد في كل تجربة.
كما وصف، في الكتاب ذاته، طريقة تحضير “الزنجار” وهي كربونات النحاس القاعدية وكيفية استعمالها في التهابات العيون، ووضّح الفرق بينها وبين كبريتات النحاس. وكيف أن الأولى تتحول إلى اللون الأحمر الغامق عند التسخين بعكس الثانية.
اعترافات المؤرخين العلميين بدوره في الحضارة العالمية
العديد من المؤرخين العلميين الغربيين والمستشرقين اعترفوا بإسهامات البيروني في النهضة الأوروبية الحديثة.
فقد وصفه الأمريكي ذو الأصول البلجيكية، جورج سارتون، في كتابه “مقدمة لدراسة تاريخ العلم” قائلاً: “لقد كان رحالة وفيلسوفاً، ورياضياً، وفلكياً، وجغرافياً، وعالماً موسوعياً، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم”.
وقال عنه المستشرق الألماني كارل إدوارد سخاو: “أعظم عقلية عرفها التاريخ”. وعن “كتاب الهند” الشهير، قال المستشرق الروسي فيكتور رومانوڤيتش روزن بأنه “أثر فريد في بابه، لا مثيل له في الأدب العلمي القديم أو الوسيط، سواء في الغرب أم في الشرق”.
اختلف المؤرخون في وفاة البيروني، فذكر بعضهم أنه توفي في غزنة أواخر العام 1045، فيما قال آخرون إنه عاش حتى سنة 1052.