يرتبط فن الضمة البورسعيدي ارتباطاً وثيقاً بالمدينة. و”الضمة”، أو “السامر”، شكلٌ من أشكال التعبير الغنائي الشعبي الذي عرفته مدينة “بورسعيد” خلال حفر قناة السويس. والضُمّة تعني أن تنضمّ جماعة من الناس إلى جماعة أخرى للتسامر والغناء.
في العام 1859، أُعلن عن بداية العمل في حفر قناة السويس بعدما حصل الفرنسي فرديناند دي ليسبس على امتياز الحفر من حاكم مصر محمد سعيد باشا. بالتزامن مع أعمال الحفر، بدأ بناء مدينة “بورسعيد” غرب موقع القناة مباشرةً.
واسم “بورسعيد” مكوّن من كلمتين: “بورت” وتعني ميناء، وسعيد حاكم المدينة الذي بدأ مشروع حفر قناة السويس في عهده. ولاحتفاليات الضمة قصة تروي حكاية الكادحين في الحفر والبناء، وترتبط ارتباطاً وثيقاً ببورسعيد.
فما هو فن الضمة البورسعيدي، وكيف بدأ؟
مع انطلاق حفر القناة، أُحضر عددٌ كبير من عمّال البناء والتراحيل، إضافةً إلى عمّال الزراعة من شتى مديريات مصر. شكلوا جماعات مختلفة توزّعت في موقع الحفر ومحيطه، وترأستها مجموعة من مقاولي الأنفار وملاحظي العمّال الأتراك والمغاربة.
ولأن معظم العمّال كانوا يفترشون الأرض وينامون في موقع العمل، فإن أبناء كل جماعة كانوا ينضمّون إلى الأخرى، فيتسامرون ويغنّون، في محاولةٍ للترفيه عن النفس وتبديد عناء التعب وقسوة ظروف العمل.
في كتابه “أغاني الضمة في بورسعيد“، يُعرّف الدكتور محمد شبانة هذا الفن -كمصطلح لغوي- على أنه “الجماعة من الناس وغيرهم ينضمّ بعضهم إلى بعض، وليس يجمعهم أصل واحد”.
ويُشير شبانة إلى أن أغنيات هذا الفن البورسعيدي تأتي على درجات صوتية مختلفة؛ ورغم أن فيها مساحات لحنية متنوعة (تبدأ خمس درجات ولا تزيد على عشرة)، فإنه لا توجد قفزات لحنية واسعة.
يتبنى هذا الفن المقامات العربية في الموسيقى العربية؛ أما طريقة الأداء فتختلف نسبياً ما بين مؤدٍّ رئيسي ومرددين في شكلٍ حواري، أو ينقسم المؤدون إلى مجموعتين تتبادلان الغناء.
لكن عموماً يغلب الأداء الجماعي على أغاني الضمة، وتختلف من حيث سرعة الموسيقى، كما يُسمح لأي شخص بالرقص من دون معارضة.
قديماً، كانت الآلات الإيقاعية فقط ترافق أغنيات الضمّة، ومنذ القرن الـ20 ترافقها أيضاً آلة السمسمية، حتى صار يُقال “أغنيات السمسمية”.
ومن المهم أن نؤكد هنا أن الضمة ليست لوناً غنائياً، بل احتفالية تجمع الناس حولها وهي تقليد -رغم أنه قديم- لا يزال يُمارس حتى اليوم في بعض المناسبات الاجتماعية، وما يميّزها أنه ليس من بين المؤدين من يمتهن الغناء.
احتفالية تحوّلت إلى ظاهرة
أسهم في عملية حفر القناة وبناء المدينة ما يقارب المليون عامل مصري على مداى 10 سنوات، ما ساعد في تطوير الضمة من مجرّد سامر يتسلى به العاملون إلى ظاهرة فنية تميّز أهل بورسعيد.
وعلى مرّ السنوات، ظهرت العديد من الضمات: ضمة أهل دمياط، وضمة أهل الصعيد، وضمة أهل الشرقية، ولكن أشهرها كانت ضمة أهل دمياط لمعرفتهم بألوان الغناء المتنوعة.
ترافق احتفالية الضمة حركات راقصة شبيهة بكل ما له علاقة بالبحر، فتارةً يجدّف الراقص وتارةً أخرى يرمي شباكه في المياه ثم يسحبه نحوه، وفي أحيانٍ يتحرك بشكلٍ يشبه حركة الصياد فوق المركب.
في مدينة السويس، يُطلق على الضمة اسم “الصحبة” وتتشابه في محتواها مع الضمة البورسعيدية. أما في الإسكندرية، فتُسمّى “الصهبة”، ولسيّد مكاوي أغنية تراثية شهيرة بعنوان “يا صهبجية” يُقال إن صلاح جاهين كتبها وغالباً ما ينسبها الناس إلى سيد درويش.
لم يفكر أهل الضمة أو “الصحبجية” في امتهان الغناء، وغالباً ما كانوا يعملون في مهنٍ متواضعة. بعضهم كان خبازاً، والبعض الآخر كان بمبوطياً.
و”البمبوطي” تعني إما رجل القارب، وهي كلمة إنجليزية في الأساس ومشتقة من Man Boat. وبعض المراجع تُشير إلى أنها قد تعني Pump Boat، أي القارب المندفع. وبكل الأحوال، فإن البمبوطي هو الرجل الذي يعمل في الميناء ويبيع البضائع للسفن العابرة -أو الراسية- في القناة.
في العامية المصرية، صارت كلمة بمبوطي تعني “الرجل المراوغ”، نسبةً لمهارة باعة بورسعيد في التجارة والبيع، التي اشتهروا بها فيما بعد.
أثر العدوان الثلاثي على الفن
تأثر فن الضمة البورسعيدي بموجة تهجير الأهالي، إثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وصارت السمسمية آلة مرافقة للأغاني الوطنية خلال تلك المرحلة، ورمزاً من رموز المقاومة الشعبية، فتعرّضت احتفالات الضمة إلى شيءٍ من الإهمال.
وبعد نكسة 1967، تفرّق الصحبجية بعد هجرة أهالي بورسعيد من المدينة مرة أخرى، وبدأت يتوارى هذا الفن لصالح السمسمية التي عادت وازدهرت مع أناشيد العودة والانتصار.
في التسعينيات وبعد تحوّل بورسعيد إلى منطقة تجارية ومركز اقتصادي مهم، تكوّنت فرق عدة اشتهر فيها عدة أفراد على أنهم من أهل الضمة، مثل: أحمد عبد الهادي، وإمبابي عبد الله، وأحمد نصر (حمام).
ولكن عموماً، بعد عام 1973، يمكن القول إن احتفالية الضمة اختفت -أو كادت- بعدما شكلت ظاهرة ثقافية فنية، وبقيت محصورة بالفنون الشعبية لبورسعيد.
نوح الحمام والقمري على الغصون آه يا عيني يا ليل
والحلو جاي يتمتخر آه يا عين آه يا ليل
مسكين قليب العاشق آه ياما يقاسي
هذه الأغنية التي جدّدتها مريم صالح بصوتها لعلّها واحدة من أشهر أغنيات الضمة التي تعود إلى القرن الـ19، وتشتهر كثيراً أغنية “إحنا البمبوطية”. ويُقال إن أغنية حمزة نمرة “يوما تعاتبنا” هي في الأصل من أغنيات التراث البورسعيدي الشهيرة.
اليوم، ترافق أغنيات الضمة بآلة السمسمية، ولها هيكل خشبي وعدد كبير من الأوتار المصنوعة من النايلون، وهي تشبه إلى حدّ كبير “القيثارة”.
أما زمان، فقد كانت الآلات البسيطة هي المرافقة لأغنيات الضمة، مثل: الرق والطبلة، وأحياناً كانوا يستخدمون ملاعق الطعام وبعض الزجاجات.