في موسم الربيع من كل عام، تفوح مدينة قسنطينة الجزائرية بعبير الزهور والورد في موسم وعيد التقطير، حيث يلف المدينة فعاليات وأنشطة شعبية لعملية تحضير وتركيب ماء الورد الطبيعي والمنتجات العطرية؛ استغلالاً لفترة حصاد هذا النبات الفواح.
إذ تفتتح وزارة الثقافة والجماهير الموسم رسمياً كل عام لبيع الماء المقطر يدوياً، المستخلص من نباتات الزهر والورد البلدي، إضافة لنباتات عطرية أخرى مثل النعناع، واللافندر، والعطرشة، وزهور البرتقال والنارنج.
فما هو أصل تقليد تقطير الورد الذي يكلل مدينة قسنطينة التاريخية بعبير الزهور، وكيف بدأ هذا الموروث الشعبي المتبع حتى اليوم؟
تاريخ وأصل تقليد التقطير الجزائري
يُستخلص ماء الزهور العطري الطبيعي في مدينة قسنطينة الجزائرية من الماء الطبيعي المكثف المستخرج من جهاز تقطير تقليدي، وهو عبارة عن وعاء نحاسي كبير يوضع على النار لمدة لا تقل عن أربع ساعات تكفي لتبخر الماء وتحوله إلى قطرات ماء معطرة على حسب نوعية الورود أو الزهور.
ونظراً لقدم هذا التقليد، تختلف الروايات والقصص حول بدايات أصول عادة تقطير الورد، فبحسب مواطنين لصحف محلية، تعود أصول العادة الربيعية إلى دولة الأندلس، إذ يُعتقد أنها لاقت انتشاراً لاحقاً ببلاد المغرب العربي وشمال إفريقيا بعد سقوط الدولة وهروب الأندلسيين، ما يشرح سبب انتشارها في كل من تونس والمغرب والجزائر حتى اليوم.
كما يتم تداول رواية أخرى تؤكدها بعض الصحف ووسائل الإعلام الجزائرية، تقول إن “أول شجرة ورد زرعت بقسنطينة كانت هدية من الصين لعائلة قسنطينية من أصول عثمانية”، وكان ذلك تحديداً في العام 1620 ميلادياً.
إلى ذلك، يقول أحد المشاركين في مهرجان وعيد تقطير الورد ويُدعى كوتشوكالي أبو بكر، لموقع “في بلادي” الجزائري؛ إن العائلة العثمانية هي عائلة كوتشوكالي التركية.
ويُعتقد، وفقاً للرواية، أنه تمت زراعة النبات الجديد لأول مرة بمنطقة حامة بوزيان أشهر منطقة تنتج زهور الورد والزهر العطري بالجزائر، فسادت المنطقة وباتت المدينة بمزارها هي المصدر الرئيسي لكافة الحرفيين العاملين على حرفة التقطير واستخراج العطور والزيوت العطرية الطبيعية.
يقول بوبكر: “ومع مرور الزمن انتشرت بشكل واسع في بساتين لا تزال موجودة إلى اليوم، وهناك من الأشجار ما يزيد عمرها على 260 سنة”.
توارث عملية التقطير التقليدية عبر الأجيال
تتمثل أول مرحلة في فعاليات التقطير الجزائرية في قطف أوراق الورد والزهر من الأشجار وجمعها وتغطيتها بقماش أبيض، في خطوة تعود لمعتقد قديم يقول إن الغطاء القماشي يمنع الحسد والعين.
يأتي هذا إلى جانب معتقدات وطقوس أخرى لا يزال يتم توارثها في عائلات الحرفيين، من بينها مثلاً طقوس صنع الحلويات التقليدية بأولى قطرات ماء الزهور التي يتم استخلاصها، حيث يتم تحضير حلوى “الطمينة البيضاء” من السميد والزبدة والعسل.
كذلك من بين العادات والتقاليد المتوارثة في هذا اليوم تعطير المنزل بمستخلص ماء الزهور المعروف محلياً باسم “رأس القطار”، ووضعه في مختلف أركان البيت.
كذلك لا يغيب عن أجواء طقوس تقطير الورد في الجزائر استخدام البخور والعنبر وإشعال الشموع. كما يوضع السكر على حواف الموقد الذي تتم عليه عملية التقطير باعتباره “فأل خير“.
وتُعد حرفة تقطير الورد من أعرق الحرف التقليدية في العديد من المدن الجزائرية، منها تلمسان وقسنطينة وعنابة وميلة والبليدة التي يطلق عليها اسم مدينة الورود، والقصبة. وما زالت عائلات تحافظ على عادة تقطير الورد وتسويقه وبيعه.
مراحل عملية تقطير الزهور يدوياً
تعتمد عملية التقطير على موقد كبير يعمل بالغاز، يوضع عليه “القطار” الذي يتألف من جزأين معدنيين، أحدهما سفلي والآخر علوي، ويُطلَق على الجزء السفلي “الطنجرة” التي توضع فيها الأزهار، أما الجزء العلوي الذي يسمى “الكسكاس” فله فتحتان مزوَّدتان بأنبوبين، الأول لاستخلاص ماء الورد بشكل يوصل مباشرة إلى مكان تكثف البخار، والثاني للتخلص من ماء التبريد.
وبعد تكاثف البخار للحصول على قطرات ماء الورد الطبيعي النقية بالطريقة التقليدية، يُجمع المزيج الذي يُسمى “رأس القطار” فيما يُعرف محلياً بـ”المقفلة”، وهي نوع من القنينات المغلقة بإحكام لحفظ الرائحة من التبدد أو التلف بسبب الهواء.
وبحسب المواقع الجزائرية، دائماً ما تعمد النسوة أو محترفو تقطير ماء الورد إلى مراقبة الماء العلوي باستمرار لضمان برودته أو حتى تغييره إن تطلب الأمر؛ حفاظاً على نبات الزهر أو الورد من التلف بفعل الحرارة. وهي العملية التي تتطلب جهداً وصبراً طويلاً قد يستهلك يوماً كاملاً قبل البدء بمناوبة جديدة، وذلك لكي يتم في الأخير تجميع بضع لترات من ماء الزهر النقي المستخلص يدوياً وبيعه في الأسواق.
أهمية ماء الورد في الثقافة الجزائرية
بشكل عام، يُعد استخدام ماء الزهر المقطر من العادات الشعبية السائدة في الجزائر، خاصة في مدن مثل قسنطينة وميلة، إذ تستهلكه الكثير من العائلات كوسيلة تعزيز مذاق الحلويات التقليدية مثل البقلاوة والمقرود، كما يُستخدم في تزيين مجالس القهوة والشاي عند استقبال الضيوف أو في الأعراس وحتى في الأيام العادية.
وهو غالباً ما يوضع في أوانٍ نحاسية تسمى بـ”المرشّ” الذي يزيّن طاولات القهوة في المناسبات وعند استقبال الضيوف.