يحل شهر رمضان وسط بحر فياض من المواد الإذاعية والتلفزيونية الدينية التي أُعدت خصيصا له، وفي حين يُكثر جموع المسلمين فيه من قراءة القرآن أو سماعه عن أي شهر آخر طوال العام، تظل هناك كوكبة من المقرئين تحتل قلوب المستمعين، لما في أصواتهم من حسن الأداء وصحة التلاوة وإحساس فريد أعطاها بعدا إيمانيا صادقا.
قيثارة السماء
ما ارتبط صوت مُقرئ برمضان ونفحاته ونسماته كما ارتبط صوت الشيخ محمد رفعت (1882-1950)، الذي يلقبه محبوه “بقيثارة السماء”. وهو من افتتح بث الإذاعة المصرية بصوته الشجي عام 1934 حين تلا قول الله تعالى: “إنا فتحنا لك فتحًا مبينا”. وكانت تلك المرة الأولى التي يُسمع فيها القرآن الكريم عبر أثير الراديو.
ارتبط صوت الشيخ محمد رفعت بقرآن ما قبل آذان المغرب في رمضان، إذ دأبت القنوات في مصر -وفي دول عربية عدة- على بث مقاطع قرآنية له دائما قُبيل رفع الأذان. وعُرف عن الشيخ محمد رفعت حبه التلاوة على مقام الحجاز، ويتميز بطبيعته الشجيّة الحزينة كأن القارئ يحكي قصة بطبقة صوتية مليئة بالوله والألم والاستفهام.
القارئ الباكي
من الشيوخ الذين ارتبط صوتهم بشهر رمضان الكريم أيضًا الشيخ محمد صديق المنشاوي (1920-1969)، الذي برز في التلاوة برواية حفص عن عاصم. وكان يتميز بالخشوع الشديد والبكاء الكثير أثناء تلاوته، حتى عُرف بكونه القارئ الباكي بسبب ميله إلى الترتيل على مقام نهاوند.
والنهاوند مقام ذو طابع سردي قصصي شجي، وسُمي بهذا الاسم نسبة إلى مدينة نهاوند الفارسية، وهو من المقامات الشرقية الرصينة العريقة. ويُبحر المنشاوي بآيات القرآن الكريم ومعانيه بصوته الشجي العميق على هذا المقام، بين المصحفين المجوّد والمرتّل، آخذا محبيه ومستمعيه إلى عوالم روحانية خالصة في هذا الشهر الفضيل.
صوت مكة
في موقف ليس غريبا، تذكر جريدة “صوت العرب” السورية أنه حين وصل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (1927-1988) إلى مطار حلب في 31 مايو/أيار 1956، اكتظ المطار ومواقف الحافلات من حوله بسبب تكدّس المحبين الذي أتوا من شتى بقاع سوريا لاستقبال صاحب الحنجرة الذهبية. وفي وسط الحفاوة تلك، خرج الشيخ عبد الصمد من المطار في موكب يضم عشرات السيارات. واكتظ المسجد الأموي بآلاف المصلين المولعين بصوته، في مشهد غير مسبوق في التاريخ الحديث.
بدأ الشيخ عبد الصمد مسيرته قارئا للقرآن في القاهرة في سن 23، حين دعي إلى حضور احتفال بميلاد السيدة زينب. وذهب برفقة أحد أقاربه الذي كان على معرفة ببعض الحاضرين، مثل الشيخ مصطفى إسماعيل وأبو العينين شعيشع. وكان المسجد يومذاك ممتلئا، واستمع الجمهور إلى صوت الشيخ الشاب بعدما أذن له كبار القراء الحاضرين بالتلاوة لمدة 10 دقائق، إلا أن التلاوة في تلك الليلة استمرت ساعتين، حيث كان الجمهور الحاضر يطلب من الشيخ الاستمرار كلما همّ بقول “صدق الله العظيم”.
وهو من القُراء القلائل الذين أتقنوا التلاوة على المقامات كافة، إلا أنه كان ساحرا في البيات، وهو المقام الأكثر شيوعا واستخداما في النغم الكردي بعد مقام الراست، وهو مقام ثري يجمع بين الحزن والفرح على حسب أداء القارئ، كما أنه مقام شرقي أصيل، يرتكز على نغمة الري، ولا يمكن عزفه بالآلات الغربية، كالبيانو والكمان وغير ذلك.
الحديث عن ملوك التلاوة أصحاب الحناجر الذهبية قد يحتاج إلى كتب، هذا ما يقر به الكاتب الصحفي أيمن الحكيم، الذي يذكر في كتابه “مزامير القرآن: العظماء السبعة لدولة التلاوة”، أنه من السهل إنتاج ألف أستاذ، ولكن من العسير خلق فنان واحد، لأن الفنان من صنع الله وليس من صنع المدارس والجامعات.
فقد أبدع الشيخ محمد عمران (1944-1994) في التلاوة والإنشاد على مقام الصبا، وهو واحد من أكثر المقامات فرادة وغرابة. على عكس بقية المقامات، ولا ينتهي الصبا بالنوتة ذاتها التي بدأ منها، مما يجعله مقاما ناقصا. ورغم ذلك، فقد انتشر بين قراء ومنشدين إذ لا ينافسه مقام آخر في الحزن والشجن.