لا يزال البريطانيون يوقرون الملكة بوديكا إلى يومنا هذا، فإذا زرت مدينة لندن ستلاحظ تمثالاً برونزياً ضخماً لها بجوار مجلسي العموم والنواب، فما قصة هذه المرأة المتمردة التي أحرقت لندن قبل ألفي عام؟
قصة الملكة بوديكا
قادت هذه المرأة البريطانية الشجاعة تمرداً فاشلاً ضد الإمبراطورية البريطانية، ونقلت قصتها على لسان اثنين من المؤرخين الرومان، أحدهما بوبليوس كورنيليوس تاسيتوس، الذي وُلد عام 56 ميلادياً وكتب عن التمرد بعد فترة بسيطة من وقوعه. أما الثاني فهو المؤرخ كاسيوس ديو، الذي وُلد بعد قرن من وقوع الثورة. ولسوء الحظ لم يكتب أي مؤرخ بريطاني عن بوديكا وبالتالي لا نملك سوى السردية الرومانية عنها.. إليكم قائمة بسبع معلومات لا يعرفها كثيرون عن هذه المرأة المتمردة:
7- كان الرومان قد غزوا بريطانيا منذ وقت قصير
بدأ الحكم الروماني الإمبريالي في جنوب بريطانيا عام 43 ميلادياً بالغزو الذي حرَّض عليه الإمبراطور كلوديوس، أي قبل 17 عاماً فقط من الثورة التي قادتها بوديكا. غير أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يبحر فيها الرومان عبر القناة الإنجليزية (المانش) من بلاد الغال، وهي فرنسا المعاصرة. كانت هناك غارات عسكرية أخرى، أبرزها الحملة التي قادها يوليوس قيصر بين عامي 55 و54 قبل الميلاد. لكن الهجمات السابقة لم تؤسس قوة احتلال. بعد النجاحات العسكرية، وقع يوليوس قيصر ببساطة على معاهدات مع القبائل المهزومة ثم أبحر عائداً مرة أخرى إلى بلاد الغال. لكن الأمور تغيرت بعد نحو قرن أو أكثر، عندما أمر الإمبراطور كلوديوس بالغزو.
وفي هذا المرة، وصل الرومان إلى بريطانيا بهدف البقاء فيها، والسيطرة على أكبر قدر من الأراضي وحكمها. بحلول عام 60 ميلادياً، احتلت القوات الرومانية أجزاء شاسعة من جنوب بريطانيا وويلز. ثم جاء تمرد بوديكا، وقومها قبائل إيسيني، وحلفائهم، وهو تمرد هز أسس مشروع السيطرة الرومانية.
6- حكمت بوديكا والرومان قبائل إيسيني
لا نعرف شيئاً في واقع الأمر عن نشأة بوديكا. لكننا نعرف أنها صارت في عام 60 ميلادياً ملكة قومها، قبائل إيسيني. عاشت هذه القبيلة في جنوب شرقي إنجلترا، في المنطقة التي تعرف الآن بمقاطعة نورفولك وفي أجزاء من المقاطعات المحيطة بها. إذ تقع مدينة نورتش الواقعة في مقاطعة نورفولك على بعد 161 كيلومتراً شمال شرقي لندن.
صارت بوديكا الملكة المشتركة لقبائل إيسيني عندما توفي زوجها الملك براسوتاغوس. ولما كان زوجها بلا أبناء، ترك عرشه لبوديكا وأختها. لكن مملكة قبائل إيسيني كان يشارك في حكمها طرف ثالث: الإمبراطورية الرومانية التي حكمها في ذاك الزمن الإمبراطور نيرون.
5- كانت هيئة بوديكا “مرعبةً”
لم يقبل الرومان بوجود منازع لهم فهاجموا الملكة وقبائلها بوحشية، تعرضت بوديكا للجلد، واغتصب الجنود الرومان بناتها، واستعبدوا أفراد عائلتها الملكية.
لكن كل ذلك لم يكسر شوكة بوديكا بل العكس، فقد شحذت همة قبائل إيسيني وأبناء قبيلة ترينوبانتس من أجل الثورة على الرومان.
وصف المؤرخ ديو شخصية بوديكا. وفقاً لروايته: “في قامتها كانت طويلة، وفي هيئتها كانت مرعبة بشدة، وفي نظرة عينيها كانت شرسة للغاية، وفي صوتها كانت قاسية بشدة، وكتلة كبيرة من شعرها البرتقالي البني تصل إلى خصرها، وحول رقبتها كانت هناك قلادة ذهبية كبيرة، وارتدت رداءً بألوان متعددة، وفوقه عباءة سميكة مُثبتة بدبوس مزخرف”. وفضلاً عن كل هذا، كان من عادتها أن تلوّح برمح بينما تخاطب شعبها.
4- هجوم بوديكا الخاطف
في مؤخرة فرقةٍ من المحاربين بـ”أعداد غير مسبوقة”، سارت بوديكا نحو مدينة كاميلودينوم الرومانية، التي تُعرف اليوم باسم كولشيستر في مقاطعة إسكس الواقعة شرق إنجلترا. كان الرومان غير متأهبين على الإطلاق عندما حان وقت مواجهة هذا الحشد من أبناء قبائل إيسيني الغاضبين. كان الحاكم الروماني لبريطانيا، سوتونيوس بولينوس، على بعد مئات الأميال على جزيرة مونا الويلزية، التي تُعرف في يومنا المعاصر باسم أنغلزي. وهناك كان يشرف على عملية تدمير معبد درويدري الذي كان يجسد مركز مقاومة الحكم الروماني.
ولذلك عندما سار أبناء قبائل إيسيني نحو مدينة كاميلودينوم، كانت دفاعاتها سيئة للغاية. كانت هناك حامية صغيرة، واستطاع مسؤول روماني يدعى كاتوس ديسيانوس، إرسال 200 رجل مسلحين بأسلحة خفيفة. وفقاً لما أوضحه المؤرخ تاسيتوس، فإن هذه الدفاعات “طُوقت بحشد بربري هائل”. تحصَّن الناجون من الهجوم المبدئي داخل معبد المدينة. وهناك تحملوا حصاراً استمر يومين فقط، قبل اجتياحهم.
3- بوديكا أحرقت لندن حتى سوّتها بالأرض
سار فيلق روماني نحو مدينة كاميلودينوم للتصدي لقوات بوديكا، لكنهم تأخروا كثيراً عن إيقاف المجزرة. بعد أن نهبوا المدينة، توجه أبناء قبيلة إيسيني وحلفاؤهم إلى الجنود الرومان، وذبحوهم أيضاً. وفي غضون ذلك، انتشرت أنباء الثورة حتى وصلت إلى مسامع سوتونيوس في ويلز، وسار بجنوده في البلاد للقاء المتمردين. وصل سوتونيوس إلى لندينيوم -لندن المعاصرة- لكنه قرر ألا يلتقي قبائل إيسيني فيها. ترك سوتونيوس المدينة الصغيرة لتلقى مصيرها.
أحرق جيش بوديكا مدينة لندينيوم حتى سويت بالأرض، وقتلوا مواطنيها. بحسب رواية المؤرخ ديو، كانت وحشية قبائل إيسيني ضارية. وكتب ديو: “من أُسروا على يد البريطانيين، خضعوا لجميع أشكال الغضب. فقد علقوا أنبل وأرفع النساء، ثم قطعوا صدورهن وخاطوها بأفواههن. وبعد ذلك، خوزقوا النساء بأسياخ حادة بالطول، اخترقت أجسادهن بالكامل”.
2- الرومان كانوا أقل عدداً
بكل تأكيد، كان على الرومان أن يفعلوا شيئاً وبسرعة كي لا يفقدوا جميع الأراضي البريطانية. صحيحٌ أنه انسحب برجاله من لندينيوم، لكن سوتونيوس لم تكن لديه نية للتنازل. قال ديو إن قبائل إيسيني وحلفاءها امتلكوا جيشاً يصل عدده إلى نحو 230 ألف مقاتل على أرض المعركة. قد يكون هذا الرقم مبالغاً فيه، ولكن ليس هناك شك في أن البريطانيين فاقوا جنود الرومان عدداً بفارق هائل. بلغ عدد رجال سوتونيوس 10 آلاف مقاتل.
لكن هؤلاء كانوا قوات رومانية منضبطة ومُدربة جيداً. ومع أن البريطانيين ربما تمتعوا بصلابة المقاتلين الصناديد، لكن كثيرين منهم كانوا على الأرجح فلاحين مزارعين، وربما اقتصرت أسلحتهم على الأدوات الزراعية. على أي حال، كان المشهد يُنبئ بمعركة ختامية. ولسوء الحظ، لا يُعرف الموقع المحدد لهذه المعركة، لكن شكل هذه المعركة سجله المؤرخ تاسيتوس.
1-ذبح الرومان 80 ألفاً من أتباع بوديكا
خلال هذه المعركة الحاسمة، فقد الرومان 400 رجل، وذلك وفقاً لرواية تاسيتوس. على الجانب الآخر، فقد البريطانيون ما يصل إلى 80 ألف رجل. سُحق تمرد بوديكا، وحكم الرومان غالبية مناطق بريطانيا على مدى 4 قرون لاحقة. أما الملكة نفسها، فيقول تاسيتوس إنها “أنهت حياتها بالسم”، بينما يدون ديو في سجلاته أنها “مرضت وماتت”.
وبرغم الفشل النهائي للتمرد، لا يزال اسم بوديكا معروفاً بعد مرور 2000 عام في جميع أنحاء بريطانيا، بل توصف بأنها بطلة قومية، وفقاً لما ورد في موقع Listverse.
وفي أعقاب المعركة، عزز الرومان وجودهم العسكري بـ2000 من جنود الفيالق، وكثير من القوات المساعدة، و1000 فارس. ولم تشهد بريطانيا أي تمرد آخر بهذا الحجم خلال المدة المتبقية من الحكم الروماني. وفي نهاية المطاف، ترك الرومان بريطانيا في مطلع القرن الخامس، لأن روما نفسها كانت واقعة تحت التهديد.