غالبا ما ترتبط المعتقدات الرافضة لتلقي اللقاح بالسياق الثقافي والاجتماعي، ولكن قد تكون هناك طرق ناجحة لإقناع هؤلاء الرافضين، وذلك وفق دراسة تم إجراؤها في الولايات المتحدة.

وتقول الكاتبة جينا كلارك في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” (foreign policy) الأميركية إن 8.5 مليارات جرعة من لقاح فيروس كورونا تم توزيعها في أنحاء العالم، إلى حدود بداية ديسمبر/كانون الأول الجاري، وهو ما يجعل الجهود المبذولة لمكافحة هذا الوباء أكبر عملية صحية تجري في التاريخ.

 

إلا أن نتائج هذه العملية تبدو متباينة، إذ إن الدول الأكثر فقرا في العالم حرمت من نصيبها من جرعات اللقاح، فيما تواجه الدول الغنية مشكلة مختلفة وهي تردد المواطنين بشأن تلقي التطعيم، خاصة في أماكن محددة تكثر فيها مشاعر ونظريات مشككة في هذا الأمر.

وتشير الكاتبة إلى مثال على ذلك، وهو ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا، حيث بلغت نسبة الحاصلين على التطعيم 56% فقط، وتجاوزت نسبة المصابين بالعدوى في الولاية ضعف النسبة العامة بالبلاد.

ويركز المشككون في جدوى أو سلامة اللقاحات، على مسألة التسريع بالأبحاث وقصر التجارب التي أجريت، إلا أن هذا النوع من المواقف ليس جديدا في العالم، وقد كانت المشاعر الرافضة للقاح موجودة منذ عقود.

ورغم أن التردد بشأن تلقي التطعيم قد يبدو من الوهلة الأولى سلوكا نادرا ومحصورا في فئات معينة، خاصة أن الأبحاث تؤكد أن 8% فقط من الأميركيين يقدمون أنفسهم على أنهم من مناهضي التطعيمات، ولكن في الواقع فإن هذه المسألة منتشرة على نطاق أوسع بمجال الصحة العامة، وسيبقى الحال كذلك لوقت طويل.

إذ إنه قبل حوالي عام من ظهور فيروس كورونا، كانت منظمة الصحة العالمية اعتبرت التردد بشأن اللقاحات واحدا من أخطر 10 ظواهر على الصحة العامة، وبالتالي لن يكون من الممكن اجتثاث الظاهرة دون أن نفهم العوامل النفسية والثقافية المعقدة التي تدفع الناس لتبني هذه المواقف.

ومن الناحية السيكولوجية تعتبر مشاعرنا تجاه التطعيمات مضادة للمنطق، إذ إن السلوك البشري دائما ما كان مدفوعا بالمكافئات، خاصة منها الملموسة والفورية، التي تمنح ردة فعل عاطفية قوية.

 

سمعة اللقاحات

إضافة إلى ذلك فإن سمعة اللقاحات تعاني بسبب ظاهرة نفسية تعرف بانحياز الإغفال، إذ إن الناس يرون الضرر الذي سببه أمر ما، مثل الآثار الجانبية للقاح، ويعتبرونه أكثر خطورة من الضرر الذي يسببه الامتناع عن التطعيم، وهو ضرر الإصابة بالمرض.

وربما يكون العامل الأسوأ هو أن اللقاحات قد تصبح ضحية نجاحها، حيث إن ارتفاع نسبة الحاصلين على التطعيم تؤدي إلى اختفاء المرض، ثم تأتي أجيال تنشأ دون التعرض إلى هذا المرض الذي اختفى بفضل التطعيم، على غرار مرض الحصبة مثلا، وبالتالي فإنهم لا يشعرون بأي خوف من تبعات الامتناع عن اللقاح.

وعندما تلتقي المعلومات المغلوطة حول مخاطر التطعيم، مع الجهل بأضرار المرض، فإن نسبة الذين يقبلون على اللقاح تكون منخفضة، إلى أن تندلع موجة أخرى من ذلك المرض.

وتشير التجارب إلى أن الأفراد الذين ينشطون ضمن حملات المناهضة للتطعيم، لا تؤدي محاولة إقناعهم بخطأ معتقداتهم إلا إلى مزيد تشبثهم بمواقف أكثر تطرفا.

نظريات المؤامرة

وتشير الكاتبة إلى أنه في الولايات المتحدة أيضا، غالبا ما ترتبط المشاعر الرافضة للتطعيم مع نظريات المؤامرة والأوساط السياسية المرتبطة بالحزب الجمهوري، وهي أفكار تجذب أعدادا لا بأس بها من الناس لعدة أسباب، من بينها أنها تجعلهم يشعرون بأنهم أذكياء وأنهم كشفوا أكاذيب المجتمع.

ومن الشخصيات المؤثرة المشاركة في هذا التيار هنالك الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي شجع الناس على الحصول على اللقاح أثناء تقلده لمنصبه، ولكن قبل فترة رئاسته وبعدها كان يعبر عن شكوكه بشأن هذا اللقاح، وساهم في الترويج لهذه النظريات في الأوساط المحافظة بالولايات المتحدة.

وتشير الكاتبة إلى أن فريقا من الباحثين في الولايات المتحدة كان قد نفذ سابقا تجارب حول مواقف الناس من اللقاح ضد مرض الحصبة، أجرى مؤخرا بحثا آخر حول لقاح فيروس كورونا.

 

تجربة عملية

وخلال الربيع الماضي تمت دراسة تأثير مختلف الرسائل المشجعة على التطعيم ضد فيروس كورونا، وأجري استبيان شمل عينة مكونة من 1748 شخصا من ولايات الجنوب الشرقي الأميركية، يمثلون فئات متنوعة.

وعرض الباحثون على هؤلاء المشاركين في كل مرة واحدة من بين 6 إستراتيجيات اتصال يتم استخدامها للإقناع بتلقي اللقاح، منها التركيز على أنه يمثل الطريقة الوحيدة للعودة إلى الحياة الطبيعية في الولايات المتحدة، أو التركيز على الإجراءات المعتمدة من إدارة الغذاء والدواء الأميركية والاختبارات قبل منح الموافقة، وبعد ذلك عرضت على هؤلاء المشاركين أسئلة حول موقفهم من اللقاح.

وقد بينت هذه التجربة أن اثنين من الأساليب نجحت في زيادة عدد من أبدو استعدادهم للذهاب لتلقي التطعيم، والطريقة الاتصالية الأولى الناجحة ركزت على التصدي لتحيز الإغفال، وذلك من خلال الإشارة إلى المخاطر المرتبطة بعدم تلقي اللقاح، والتي تفوق بكثير مخاطر اللقاح نفسه.

أما الطريقة الثانية التي نجحت فقد كانت خارجة عن المألوف، وتمثلت في جعل اللقاح يبدو كأنه عمل وطني بطولي، ومساهمة في دعم البلاد بمواجهة التحديات التي فرضها الوباء.

ولكن تنبه الكاتبة إلى أن هذه الأساليب التي نجحت في الولايات المتحدة قد لا تنجح بأماكن أخرى، بما أن مشكلة انحياز الإغفال قد تكون عالمية، ولكن العوامل تختلف من بلد إلى آخر.

وتدعو الكاتبة في الختام إلى اعتماد هذه المقاربات من أجل زيادة الوعي بأهمية تلقي التطعيم ضد فيروس كورونا، مع تنسيق جهود مختلف علماء الاجتماع في العالم من أجل التعرف على الجذور العميقة لهذا التردد والرفض، الذي تقابل به اللقاح فئاتٌ لا يستهان بها من الناس.