في تقرير نشره موقع “فوكس” (Vox) الأميركي، تحدثت الكاتبة ريبيكا جينينغز عن فيديو نشرته إحدى مستخدمات تطبيق “تيك توك” (TikTok) اسمها “إيفلين خواريز” على إثر المأساة التي وقعت في حفلة المغني ترافيس سكوت في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حيث أدى تدافع الجماهير إلى وفاة 8 أشخاص وإصابة أكثر من 300 شخص بجروح. حيث اعتبرت خواريز أن الحيز المكاني للحفلة له بعد رمزي شيطاني.

وذكرت الكاتبة أن إيفلين خواريز (25 عاما) تتمتع بشعبية كبيرة على تيك توك بعدد متابعين يبلغ 1.4 مليون متابع. وتهتم مقاطع الفيديو التي تنشرها بنظريات المؤامرة والجرائم الحقيقية، مثل قضية مقتل غابي بيتيتو، أو “أحذية الشيطان” لليل ناز إكس، أو النظرية القائلة إن العديد من الحكومات العالمية تخفي معلومات عن القارة القطبية الجنوبية.

 

وتضيف أن معتقدات خواريز تُذكِّر بما يتم تداوله على الإنترنت من أفكار على غرار “الموجات السلبية” والأرواح الشريرة أو كارثة كونية تلوح في الأفق تحاول الحكومة إخفاءها عنّا.

ورغم نشأتها في عائلة مسيحية، فإن خواريز تقول إن علاقتها بالله تجاوزت الإطار الديني المنظم منذ كانت في الـ19 عاما، وتعتبر نفسها حاليا شخصا روحانيا، مثل العديد من الشباب الذين يعملون على تشكيل وصقل أفكارهم عبر الإنترنت، حيث يتحدثون عن أحلامهم وعن تجار الجنس مجهولي الهوية الذين يقومون بتثبيت أجهزة تتبع في سيارات النساء.

ويتشبه بعض أولئك الشباب بالأنبياء أو الشامان (وهم سحرة دينيون يقولون إن لديهم قوة تتغلب على النيران ويستطيعون إنجاز الأمور عن طريق جلسات تحضير الأرواح التي فيها تغادر أرواحهم أجسامهم إلى عوالم أخرى) من خلال نشر الكلمة الطيبة وتوجيه المؤمنين المحتملين، في حين قد لا يتجاوز البعض الآخر حدود التعليقات.

وأشارت الكاتبة إلى أن بعض الشباب ربما يؤمنون بجميع ما يتم تداوله على الإنترنت أو ببعضه، ولعل أهم جزء من روحانيات الإنترنت هو أنها قابلة للانتقاء والاختيار، وهم يرون أنه من المهم أن يكونوا منفتحين على كل شيء.

 

حسب جوزيف روسو، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ويسليان الأميركية، فإن شبكة المعتقدات غير المترابطة على الإنترنت تجمعت لتشكل دينا خاصا يمكن تسميته بدين “مجرد طرح الأسئلة” أو دين “القيام بأبحاثك الخاصة”، حسب قوله.

وهو يرى أن هذا التوجه لا يزال في بدايته، وقد تطور في محاولة لتصحيح خطأ مجتمعي قائم على اعتقاد أن العالم مكان سيئ للغاية ولا يمكن للنظام الحالي التعامل معه، لذلك ربما يكون هناك شيء آخر يحدث لا يمكن للعقل استيعابه.

وقد بلغ ما يمكن أن يطلق عليه “دين الإنترنت” ذروته في أعمال العنف التي شهدها العالم، وأبرز الأمثلة على ذلك أعمال الشغب المرتبطة بنظريات المؤامرة التي تروّج لها حركة “كيو أنون” (QAnon) -وهي حركة أميركية سياسية يمنية متطرفة تؤمن بنظريات المؤامرة- التي وقعت في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي عندما اقتحم أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب البيت الأبيض بسبب عدم رضاهم عن نتائج الانتخابات الرئاسية، ونظريات المؤامرة المحيطة باللقاحات.

وتطرقت الكاتبة إلى علم التنجيم الذي اكتسب شعبية واسعة خلال العقد الماضي، والاهتمام المتجدد بالممارسات الطبية الشاملة. وتُطرح هذه المعتقدات بوصفها استثناءً للقواعد الكونية العادية، وهذا يعني أنه حتى إن أشارت البيانات إلى أن معدلات جرائم العنف قد انخفضت بشكل كبير منذ التسعينيات، يظل الفرد عرضةً لخطر أكبر بكثير مما كان عليه في العام الماضي.

في عام 2020، تبيّن أن غالبية الأميركيين لا ينتمون إلى أي دين أو مؤسسة دينية، على عكس نسبة 70% المسجلة بين الثلاثينيات وحتى مطلع القرن الـ21. ويقول الأميركيون، وخاصة الشباب، إنهم لا دينيون. ولكن هذا التصنيف لا يعكس الحقيقة كاملةً.

وذكرت الكاتبة أن “دين الإنترنت” يثير أسئلة كثيرة من بينها “ما الضرر من الإيمان؟” و”لماذا يجب أن لا أستعد للأسوأ؟”، وكلما تعمقت أكثر، زادت صعوبة الإجابة على هذه الأسئلة.

 

تعزو الكاتبة هذه الظاهرة إلى إرث البيوريتانيين الذين ساهموا في ترسيخ مبدأ الفردانية والتقوى والعمل الجاد على حساب أي شيء آخر. وربما هي ناتجة عن الظواهر المتكررة لليقظة العظيمة التي يقودها البروتستانتيون التي لطالما كانت حاضرة في تاريخ الولايات المتحدة، وهي الحركات الاجتماعية التي بشرت بأهمية العلاقة الشخصية مع الله خارج نطاق الطقوس الدينية والاحتفالات المنظمة.

حسب ماري رين، أستاذة الاقتصاد في جامعة غرب إنجلترا والتي تدرس الليبرالية الجديدة والدين، فإن الفكرة تكمن في “تحسين نفسك وصحتك وظروفك. وقد بلغت هذه الفكرة ذروتها في نهاية المطاف مع “لاهوت الرخاء” المعروف بقادته الكاريزماتيين الذين يبشرون بالثروة المالية ويمارسون التظاهر على نطاق واسع، أي أنه من أجل تحقيق أشياء إيجابية في حياتك، كل ما عليك فعله هو التظاهر بأنها موجودة بالفعل”.

وأوضحت رين أن هذه الفكرة بدأت في الازدهار خلال فترات الأزمة الاقتصادية. وقابلية نقل هذه الرسالة افتراضيًا هو ما يجعل الناس يؤمنون بلاهوت الرخاء حتى إن لم يكونوا من رواد الكنيسة.

ويمكن قول الشيء نفسه عن الإنترنت، إذ تتطور الاتجاهات الروحانية مثل الاتجاهات الثقافية والسياسية.

ويعتقد أستاذ الأنثروبولوجيا روسو أنه في ظل تحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى القوة الثقافية المهيمنة على مجتمعاتنا، باتت الأيديولوجيات تنتشر بين الأشخاص الذين لديهم معتقدات وخلفيات مختلفة. وهو يوضح أن “دين الإنترنت” عبارة عن “مزيج من المعتقدات والجماليات المسيحية وغير الغربية المختلفة، ولكن أمورا مثل الخير والشر والازدهار موجودة في جميع الأنظمة الدينية في جميع أنحاء العالم. ولا يزال أكثر الملحدين يهتمون بالأخلاق”.

وأشارت الكاتبة إلى أن هذه الثنائيات التي تتبناها روحانية الإنترنت، مثل الخير والشر، والشيطاني والملائكي، والوفرة والفقر، منتشرة في مختلف جوانب الثقافة، وليس في السياق الديني فقط.

 

انضمت خواريز إلى منصة تيك توك خلال فترة صعبة، وبشكل خاص في أوائل عام 2019، حينما أُصيبت باكتئاب بعد أن أُجبرت على ترك الكلية، وإثر بحثها على مكان تنفّس فيه عن غضبها. وعلى الرغم من أنها نشأت في عائلة متدينة، فإن معتقداتها تختلف عن معتقدات والديها، وهي تقول “يبحث الكثير من الشباب عن الله بطريقة مختلفة. إنهم يبتعدون عن خلفياتهم الدينية ولديهم علاقة فعلية مع الله”.

نشرت آبي ريتشاردز -وهي باحثة في مجال التضليل وتبلغ من العمر 25 عامًا- مقاطع فيديو على تيك توك حول كيفية انتشار نظريات المؤامرة عبر الإنترنت. وهي تعمل بانتظام مع العلماء لكشف الخرافات الضارة وتنزيلها في سياقها.

وقد لاحظت كيف أدت الأحداث الحالية الفوضوية -مثل مأساة مهرجان أستروورلد وفيروس كورونا وسوق العمل المربك- إلى اندفاع مستخدمي هذه المنصة نحو المحادثات الصاخبة حول الروحانيات بغض النظر عن توجهاتهم الأيديولوجية أو السياسية.

وتقول إن “هناك شعورا جماعيا بأن العالم يشارف على الانتهاء، سواء كان من خلال الحديث عن تغير المناخ، أو الاختطاف، أو عودة المسيح، أو عدم المساواة في الثروة، أو عبادة الشيطان”.

وأضافت أنه عندما يشعر الناس بعجزهم أمام الشر، فإنهم يميلون إلى اختيار الروايات التي تقدم إجابة بسيطة عن سبب الرعب الذي يشهده العالم. وفي حالة حادثة التدافع في مهرجان أستروورلد، لم يبذل المنظمون الجهد الكافي لإنقاذ الناس، بل فضلوا الربح على صحة البشر وسلامتهم.

وتقدم الإنترنت إجابات لا متناهية على هذا النوع من الأسئلة، وذلك بالنظر إلى طريقة عملها. فعلى سبيل المثال، يعرض تيك توك مجموعة من الفيديوهات المتتالية ذات المحتوى المترابط، ونظرا لقصر مدة تلك الفيديوهات التي لا تتعدى في الغالب 3 دقائق أو أقل، يمكن للمستخدمين مشاهدة أكثر من 100 مقطع في الفترة الزمنية نفسها التي قد يستغرقونها لمشاهدة مقطع فيديو واحد على “يوتيوب”. ومن الطبيعي أنّ ترتبط سرعة انتشار فكرة ما بمدى بساطتها.