كانت الصين تزرع نبات الشاي منذ أكثر من ألف تقريبًا، وخلال عصرها الذهبي في القرن 18 كان الشاي يرمز إلى المكانة البارزة للإمبراطورية والحضارة الصينية في العالم، وفي العصر الحديث أصبح رمزًا لتاريخ البلاد ودينها وثقافتها.

وفي كتاب “فن الشاي” -وهو من تحرير المؤلف الصيني لو جي، وترجمة فؤاد حسن- الصادر حديثًا بنسخته العربية عن الدار العربية للعلوم-ناشرون في بيروت (2021)؛ يستعرض المؤلف تاريخ فنون الشاي الصينية التقليدية، ويقدِّم أمثلة لتلك الفنون، ويعرض الأشكال الأساسية لفنون شرب الشاي في الثقافة الصينية.

 

اكتشاف الشاي

يقول لو جي إنه في مطلع عهد سلالة تانغ “استُخدم شرب الشاي”، وابتكر الإمبراطور الأسطوري شن نونغ شي عام 2732 قبل الميلاد فن زراعته، وكان مبتكر الدواء في العصور الصينية القديمة، وعاش في زمن لا دواء فيه، ولكي يخفف معاناة الناس قام بتذوق كل أنواع الأعشاب والنباتات.

وتقول الأسطورة إن شن نونغ شي تذوق ذات يوم كثيرا من النباتات السامة، فشعر بجفاف في فمه وخدر في لسانه، وسقط تحت شجرة كبيرة، فهبت الريح وتساقطت بعض الأوراق من الشجرة. ويؤكد لو جي أن شن نونغ شي تناول ورقة ووضعها في فمه، فكان طعمها مرًّا، لكن الخدر زال وشعر بمذاق عطر أسفل لسانه، استيقظ وجمع الأوراق وأطلق عليها “تو” (أي شاي)، واستخدمها ترياقا لإزالة السموم.

ويُقال إنه قرب نهاية عهد أسرة تانغ (618-907م) في الصين كان شرب الشاي يمر بمرحلة تحوّل من الدواء إلى المشروبات. وترد في الكتاب أنواع الشاي، حيث يُصنف في مجموعات كبيرة: الشاي الأخضر، والشاي الأصفر، والشاي الأبيض، والشاي الأزرق، والشاي الأحمر، والشاي الأسود، وشاي عرف الديك الأبيض، وشاي سلحفاة الماء الذهبية.

موطن الشاي

ويقول المؤلف إن الشاي هو المشروب الوطني للصين، حيث أعدّ الصينيون الشاي وشربوه منذ آلاف السنين، وأصبحت فنون تذوق الشاي من أهم مضامين الثقافة الصينية.

ويوضح لو جي أن نقع وتخمير الشاي من أقدم فنون الشاي الصيني التقليدي، حيث تطورت أساليب النقع والتخمير تدريجيًّا وأصبحت أكثر جمالا، وهذا يشمل اختيار نوع الشاي، والماء، والأدوات، وطريقة التخمير وما إلى ذلك. ويتحدث الكاتب عن بدايات فن الشاي، مؤكدا أن منشأه الصين، ومرجعا فنون صناعة الشاي لجذور عميقة في الثقافة الصينية. ويتتبع المؤلف أنشطة شرب الشاي وفنونه من عهد سلالة هان (حكمت الصين من 202 قبل الميلاد إلى أن تفككت سنة 221 بعد الميلاد) وحتى حقب الأسر الشمالية والجنوبية.

الشاي في المعابد

يؤكد الكاتب أنه بعد دخول التعاليم البوذية الصين، وانتشارها في حقبة الأسر الشمالية والجنوبية، استمرت بوذية الزن من سلالة جين الشرقية (317-420) بعد الميلاد، وانصهرت مع الثقافة الصينية، إلى أن أصبحت ممثلة للتعاليم البوذية الصينية.

ويلفت المؤلف إلى أن أنشطة الرهبان في صناعة الشاي وشربه كانت بسيطة، فكان يقتصر دور الشاي على تنشيط الرهبان ومساعدتهم على مقاومة التعب والنوم.

ونتيجة التفاعل بين الشاي والزن اكتسب الشاي مضامين عميقة في الأنشطة البوذية، وساعد ذلك في عملية التنوير، وأدى دورًا كبيرًا في عملية التأمل، حيث دمج الرهبان بين ثقافة الشاي والتعاليم البوذية. ويشير المؤلف إلى أن الرهبان البوذيين خلال عهد أسرة تانغ كانوا أول من يبيع الشاي بانتظام، وهيمنوا في المعابد على صناعة الشاي، وتسخيره لخدمة ثقافة بوذية الزن الصينية.

طقوس الشاي عند الصينيين

ويقول الكاتب إن أرض الصين واسعة شاسعة، يعيش فوق أرضها 56 قومية، ولكل منها تاريخها الثقافي المختلف، وكان لكلِّ قومية طقوسها الخاصة في إعداد الشاي وشربه.

ويضيف أن فنون الشاي الصيني التقليدية تساعد على الهدوء، فشرب الشاي قادر على بث الطمأنينة والهدوء في النفس البشرية.

ورافق الشاي الفنانين في حياتهم اليومية؛ في الموسيقى، والشطرنج، والكتابة والقراءة، والرسم، وفي سعيهم وراء الهدوء والسكينة.

ويلفت لو جي إلى أن شرب الشاي نوع من العناية بالروح والجسد، وهو نوع من آداب الحياة، ويعزز أواصر الصداقة بين الناس، ويهذب الأخلاق؛ ففي حفلات الشاي التقليدية يتم التأكد من التفاصيل.

ويبيّن المؤلف أن شرب الشاي في سلالتي تانغ وسونغ كان يقتصر على العائلة المالكة وأبناء الطبقة الأرستقراطية، والأدباء، ويتابع أنه منذ سلالة سونغ (960-1279) بدأ الأدباء يهتمون ببيئة شرب الشاي، في البداية كانوا يشربون الشاي داخل الغرف، يراقبون الطبيعة من نوافذ نظيفة، في مكان هادئ، حيث يُعدون الشاي، ويجلس المقربون معا يتبادلون أطراف الحديث، ويشربون الشاي بأناقة، وبعد ذلك انتقلوا إلى مصاطب واستراحات في الحدائق، وأقاموا مواقد الشاي إلى جانب برك الماء الصافية، وهم يتذوقون الشاي في البيئة الطبيعية.

ويذكر المؤلف أنه في فترة حُكم الإمبراطور تشيان لونغ (1711-1799) كانت تُقام “مأدبة شاي سان تشينغ” والهدف من وراء ذلك كان جمع أحبائه ومشاركتهم الشاي.

ويرد في الكتاب 4 شروط يجب توفرها لشرب الشاي: نسيم عليل تحت ضوء القمر، وخيمة تغطيها الزهور، وسرير من قصب ووسادة من حجر، وزهور وأشجار وشطرنج.

ويبيّن المؤلف أن القدماء اعتقدوا أن “الماء أم الشاي”، حيث لا يوفر الصينيون قطع مسافات طويلة للحصول على شاي مطبوخ بماء جيد. ويذكر بأن لكل سلالة من السلالات التي حكمت الصين طريقتها الخاصة في إعداد مشروب الشاي.

شاي البلاط الإمبراطوري

ويقول الكاتب إن شرب الشاي حظي باهتمام كبير في الأسر الإمبراطورية، فظهر فن الشاي في القصور الملكية الصينية على نطاق واسع. ويرى لو جي أن شاي قونغ هو كان شاي العائلة المالكة في الصين القديمة.

وأشار إلى أنه نتيجة لحاجة العائلة المالكة والمسؤولين المتزايدة للشاي سُنَّت قوانين الشاي، وبُنيت بيوت لإعداد الشاي الممتاز للبلاط الإمبراطوري؛ ففي أثناء حكم سلالة تشو في الصين القديمة (1046-771 قبل الميلاد) كان يزيد عدد بيوت الشاي على 30 بيتا، وكان يُطلق على إنتاج الشاي الملكي اسم التاج الوطني، ويوضح المؤلف أن الموظف المسؤول عن إنتاج الشاي الملكي في مدينة هوتشو كان يصعد إلى الجبل في بداية الربيع، ولا يغادره حتى قُبيل الشتاء.

 

وجسد هذه الحالة الشاعر تشانغ ون غوى في قصيدة “الشاي الجديد في بيوت هوتشو”: “عاد الإمبراطور من جولته الربيعية ثملا، وأزاحت الحسناء الستائر. ابتسمت أزهار القرنفل، وأُعلن عن وصول شاي ووشينغ”. ويتابع لو جي يُقدِّم كبير الخدم الشاي للإمبراطور وضيوفه ويهتف جميع الحضور بالعمر الطويل للإمبراطور، ويؤكد لو جي -في كتابه- أن نظام الشاي الملكي أسهم في رفع تقنيات صنع الشاي وفنون شربه؛ ففي فصل قطاف الشاي يوفد البلاط المبعوثين والمسؤولين المحليين إلى مناطق جمع الشاي، للإشراف على المزارعين أثناء قطافهم الشاي الملكي.

ويقول الكاتب لم تتوقف قواعد شرب الشاي في القصور الملكية، بل حافظت الأسر الحاكمة على حدائق شرب الشاي الملكية كتقليد متوارث في الثقافة التقليدية الصينية.

شرب الشاي على ظهور الخيل

ويرد في الكتاب أن الشاي كان في العصور القديمة مجرد دواء، ولم يكن مشروبا يوميا؛ لذا لم تكن للشاي أدواته الخاصة، بل كانت الأدوات للشاي والنبيذ والطعام معًا.

وحسب المراجع التاريخية والمكتشفات الأثرية، فقد استُخدمت الأدوات الفخارية لشرب الشاي، ومع تطور صناعة الشاي أصبحت له أدواته الخاصة. وأشار الكاتب إلى أن المواد التي صنعت منها أدوات الشاي كانت غنية جدا، ومنها الخزف، واليشب، والنحاس، والذهب، والفضة، والخشب.

ويواصل الكاتب الحديث عن ازدياد شعبية الشاي، موضحًا أن أساليب شرب الشاي تطورت مع زيادة أصنافه، كما طالت أدوات الشاي تغييرات كثيرة، وأصبح لها شكلها الفني وقيمتها الاجتماعية، حيث اعتقد الإمبراطور الثامن لسلالة سونغ؛ هوي زونغ (1082-1135)، في كتابه “نظرية الشاي” أن أفضل لون لأكواب الشاي ذات الملمس الناعم والبراق هو الأسود، وينعكس ذلك على لون الشاي، ويحافظ على حرارة الشاي لفترة أطول. ويرد في الكتاب أن المغول كانوا يشربون الشاي وهم على ظهور الخيل.

منافسات دولية من أجل الشاي والقهوة

يُذكر أن التجار الهولنديين هم أول من استوردوا أوراق الشاي إلى أوروبا عام 1609م، ويلفت لو جي إلى أن المنافسات اندلعت بين مستوردي القهوة والشاي في القارة الأوروبية، وحسب غوردون كير -في كتاب “حبوب البن الساحرة”- بدأت شركة الهند الشرقية الإنجليزية -التي خسرت أمام الفرنسيين والهولنديين في السباق لكسب المال من تجارة القهوة- تضع كل جهودها في زراعة الشاي بين عامي 1700 و1710م، حيث تمّ استيراد 800 ألف رطل من الشاي إلى بريطانيا.

ويذكر الكاتب أن هذا الرقم بحلول عام 1721م ارتفع إلى أكثر من مليون رطل، وبحلول عام 1785 أصبح الشاي في متناول عامة الناس، وهكذا أصبح الشاي لا القهوة المشروب الوطني بالنسبة للإنجليز.