تحت المنازل الحجرية في مديات بولاية ماردين في جنوب شرق تركيا، تمتد شبكة من الدهاليز التي كشفت عنها البلدية نتيجة أعمال الحفر والتنقيب، وتعتقد أنها أكبر مدينة تحت الأرض في تركيا.

بلغ مجموع ما اكتشف حتى اليوم أكثر من 50 قاعة، متصلة بنفق يبلغ طوله 120 مترا، وزينت جدران بعضها برسوم غامضة، من بينها مثلا حصان منمق ونجوم ثمانية وأشجار ويد شخص بالغ.

وماردين موقع أثري محمي عالميا حسب تقارير منظمة اليونسكو (1979) وهي، إلى جانب مدينة القدس ومدينة فينيسيا الإيطالية، واحدة من 3 مدن ما زالت آثارها المعمارية محفوظة بشكل جيد حتى الآن.

وقال المسؤول عن مكاتب الحفظ والتفتيش في بلدية مديات مروان ياوز (38 عاما)، الذي يشرف على المشروع، “حفرنا أكثر من 8200 متر مربع من مساحة إجمالية تُقدر بـ900 ألف متر مربع، ما يجعلها أكبر مدينة تحت الأرض في الأناضول، وربما حتى في العالم”.

وروى أن أعمال الحفر بدأت في حزيران 2020 “عن طريق المصادفة تقريبا”، عندما اكتشفت البلدية، التي كانت تنظف أقبية المنازل، نفقا ضيقا يقل عرضه عن 1,70 متر، خلف باب خشبي أزرق اللون.

وشرح أن “الناس، سعيا منهم إلى الاحتماء من الظروف المناخية والأعداء والحيوانات المفترسة والأمراض، لجؤوا إلى هذه الكهوف التي حوّلوها إلى مدينة حقيقية”.

وأوضح أن المدخل الأساسي يتكون من فتحة مستديرة كان ينبغي الانحناء للمرور منها.

وأضاف “في الواقع، كنا نشعر بأنها موجودة، فقد انهارت الأرض وسقطت آلة بناء في سبعينيات القرن العشرين. لكن في ذلك الوقت، لم نسعَ إلى معرفة المزيد”.

وكانت هذه المنطقة الواقعة على الحدود مع سوريا، على أبواب بلاد ما بين النهرين، محطّ أطماع كل الإمبراطوريات الكبرى، وتعاقب عليها المحتلون.

ولاحظ ياوز أن “كل المؤمنين بالأديان، ساهموا في مدينة ماتياتي تحت الأرض”، وهو الاسم القديم لمديات الذي استُخدِم في الألفية الأولى قبل الميلاد على شاهدة تروي غزو الآشوريين للمدينة.

ويقود النفق إلى قاعة ذات أرضية محفورة في كتلة من الحجر الجيري، وفي وسطها بلاطة ربما كانت تُستخدم للاحتفالات أو تقديم الأضاحي.

وعلى الجدران، تشهد آثار الآلات على الضربات التي ضُربت لفتح الممر في الحجر.

وشرح ياوز أن “من الصعب تحديد أصل المكان نظرا إلى أن كُثرا شغلوه من دون انقطاع”. وأفاد بأن “اليهود والمسيحيين وجدوا فيه ملاذا لممارسة دينهم المحرم”.

وقال الدكتور أكرم أكمان، المؤرخ في جامعة ماردين، عاصمة الولاية التي تبعد 80 كيلومترا إلى الغرب، إن “هذه الأراضي كانت قبل وصول العرب محل نزاع مرير بين الأشوريين والفرس والرومان ثم البيزنطيين”.

وأشار إلى أن “مسيحيي المنطقة شرعوا في بناء الكثير من الأديرة المحصنة في القرنين الخامس والسادس”، وأقاموها في الجبال بعيدا عن أطماع الغزاة.

ثم بقيت للأقبية فائدتها بعد الغزوات، على ما لاحظ المدير السابق لمتحف ماردين غني تاركان، الذي قال إن مجموعات من الأدوات التي كانت تستخدم في الحياة اليومية، والمصنوعات الحجرية والزجاجية، والعملات البرونزية والمجوهرات، والمصنوعات الخزفية، استُخرجت من الدهاليز.

وأوضح أن “الناس واصلوا استخدام هذا المكان كمساحة للعيش حتى بعد توقف الهجمات، عندما أصبحت المسيحية الدين الرسمي (للإمبراطورية البيزنطية)”. وأضاف “استُخدِمَت بعض القاعات كسراديب الموتى، وكانت أخرى بمثابة مخازن للغلال”.

وعُثر أيضا على عظام، وكذلك على آثار لحيوانات ومنتجات زراعية كانت تُخزّن في هذه الأقبية خلال عهد العثمانيين.

وأشار مروان ياوز إلى فتحات مستديرة كبيرة محفورة في الأقبية، بحيث توضع في ظلامها البارد جرار النبيذ التي كان يتم إنتاجها على سفوح التلال المحيطة، ولا تزال إلى اليوم اختصاص المسيحيين السريان في ماردين.

وعلى عكس مدن كابادوكيا العمودية تحت الأرض والتي تم بناؤها على مراحل في أعماق الصخور، فإن مديات تمتد أفقيا، على ما يشرح غني تاركان.

وتعتزم بلدية مديات مواصلة أعمال التنقيب في الأماكن التي تأمل فيها كثيرا بجذب السياح في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 120 ألف نسمة.