تُصارع مناطق جنوب شرقي الرمادي، مركز محافظة الانبار (110كلم غرب بغداد) جفافاً مزمناً يهدد بتحويلِ قرى كاملة الى أراض جرداء بلا حياة، مجبرة سكانها على الهجرة والبحث عن فرص عمل في أماكن أخرى.

لم يعد يمتلك أبو علي، أحد الصيادين الذين هجروا قرية (العنكور) جنوب مدينة الرمادي، سوى الذكريات وقارب مهجور بهت لونه وتآكل خشبه، يواظب على زيارته بين حين وآخر، عله يراه متمايلاً مجدداً في بحيرة الحبانية وقد استعادت عافيتها.

إلا أنه وفي كل مرة، يجلس متكئاً بظهره الى قاربه الجاثم منذ عامين، تحيط بهما الأعشاب الجافة تحت شمس حارقة، مواسياً بذلك نفسه وقاربه على ما حل بهما.

“الطاش” و”العنكور” القريتان المتجاورتان اللتان يقطنهما نحو عشرة آلاف شخص، وتقعان بين نهر الفرات وبحيرة الحبانية جنوبي الرمادي، كانتا والى وقت قريب ضمن مساحة خضراء محاطتين بحقول القمح، وتكتظ في شاطئ بحيرة الحبانية القريب، العشرات من قوارب الصيد.

“شبح الجفاف أجبر مئات العائلات على الهجرة” يقول أبو علي البالغ 45 سنة، وهو يشير بيده الى ما تبقى من البحيرة التي ضربها الجفاف، والأرض التي أصبحت جرداء في الجهة المقابلة.

ويضيف:”كان علي أن أفعل ذلك أيضاً قبل سنة، إذ انتقلت مع عائلتي المكونة من سبعة أفراد الى مدينة الرمادي، وغيرت مهنتي من صياد سمك إلى عامل بناء”.

تعاني مناطق أطراف الرمادي، من شحة في المياه، لأسباب عديدة حسبما يؤكد متخصصون بيئيون، بدءا من النمو السكاني المتسارع الذي يثقل كاهل الموارد المائية المتاحة، واتساع مدى الجفاف جراء آثار تغيير المناخ، فضلاً عن سوء إدارة الموارد المائية، وضعف البنية التحتية.

لذا يواجه السكان المحليون في منطقتي “الطاش” و”العنكور” صعوبات في الحصول على المياه سواءً للشرب أو غيرها من الإستخدامات البشرية أو للماشية وري المزروعات. وما يحصلون عليه من مياه سواءً التي يشترونها من الصهاريج أو يسحبونها من بعض الآبار الصامدة في المنطقة “غير معالجة”، ما يعرضهم لمخاطر صحية كبيرة.

كما أن شحة المياه بنحو عام، وفي بحيرة الحبانية على وجه الخصوص، أدى إلى تراجع زراعي غير مسبوق، وتوقف صيادي الأسماك عن مزاولة عملهم، فشاعت البطالة واتسع نطاق الفقر. كما أثر انحسار مياه البحيرة، بنحو كبير على الحركة السياحية التي يعود تاريخ انشاء المرافق السياحية على ضفافها الى العام 1979.

هذا كله، دفع الكثير من العائلات ومن بينها عائلة أبو علي، إلى النزوح نحو مناطق أخرى تتوافر فيها المياه، وقد يجدون فيها حياةً أفضل، لكن معظمهم يحملون في دواخلهم أملاً بالعودة يوماً إلى مناطقهم ومزاولة أعمالهم القديمة.

أزمة مياه

انخفاض مناسيب نهري العراق الرئيسيين دجلة والفرات والأنهر الصغيرة المغذية نتيجة قلة الاطلاقات المائية من دول المنبع تركيا وايران، وآثار تغير المناخ على تراجع التساقطات المطرية وارتفاع معدلات درجات الحرارة فضلاً عن سوء إدارة ملف المياه داخل البلاد، عوامل اشتركت جميعها بالتسبب في جفاف عدد كبير من القنوات الاروائية والآبار مما أثر بنحو مباشر على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الى جانب تضرر الثروة الحيوانية في مختلف أنحاء العراق، وفقاً لمتخصصين في المجالين البيئي والزراعي.

وبالعودة إلى منطقتي طاش والعنكور، فان خبراء البيئة يؤكدون بأن قلة الاطلاقات المائية من دول المنبع ليست السبب الوحيد وراء شحة المياه فيهما، بل أيضاً الإجراءات الحكومية المتخذة لتنظيم تدفق المياه من ناظم (الورار) باتجاه بحيرة الحبانية، ومن ثم اعادته الى نهر الفرات.

يوضح ذلك، المهندس عمار العاني، خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية، إذ يرى بأن “اعتماد منطقتي الطاش والعنكور على ما يصلهما من ناظم الورار سياسة تقليدية غير مجدية لأنها مرهونة بفيضان النهر”.

ويشرح:”في حال انحسار موجة الأمطار وانخفاض الواردات المائية في نهر الفرات تقل الاطلاقات الى البحيرة وحسب الخطة المركزية لإدارة الموارد المائية تكون الأولوية لتأمين تصاريف وتعزيز عمود النهر بين مناطق أعالي الفرات والفرات الأوسط”.

وناظم الورار، أحد أهم وأقدم النواظم في العراق يقع في مدينة الرمادي على نهر الفرات، مشيد بالخرسان ويبلغ طوله 209م ، توجد فيه 24 بوابة، عرض الواحد منها ستُ امتار، أنشئ في عام 1956 لغرض حجز المياه ورفع منسوبها وخزن الفائض في بحيرة الحبانية ومن ثم اعادتها الى نهر الفرات عند انخفاض مناسيبه.

ويرى العاني أن مشكلة العراق عموما ومحافظة الأنبار ومركزها الرمادي على وجه الخصوص “ليست بقلة الاطلاقات المائية بل بسياسة إدارة المياه عبر النواظم والسدود التي ما زالت تهتم بدرء الفيضانات” فمشاريع العراق عمليا ومنذ العام ١٩٢٠ ترتبط بدرء الفيضانات دون تبني حلول لإدارة المياه.

وقوع منطقتي الطاش والعنكور ضمن ذنائب حوض الفرات في الأنبار الذي يمتد من قضاء الرطبة الى الحبانية، جعلها خارج أولويات الخطط الزراعية، وهو ما أدى الى خروج أكثر من 250 ألف دونم عن الخطة الزراعية، وفقدان أنواع كثيرة من المحاصيل الزراعية لعل أهمها المحاصيل الصيفية من الخضروات ومحصولي الذرة والماش، حسب خالد الجابري مدير زراعة الأنبار.

ويحصل المزارعون في هذه المناطق على مياه السقي وفق آلية تعرف بـ(المراشنة) وهو عرف سائد يتيح لإدارة الموارد المائية تنظيم تدفق المياه، لكن القسمة هنا كما يقول مدير الزراعة تكون “بين المزارعين ونهر الفرات نفسه”، اذ تسمح الموارد المائية في الأنبار بتدفق المياه الى الأراضي الزراعية لساعات قليلة بينما تذهب النسبة الأكبر اما لخزن المياه أو اعادتها الى نهر الفرات.

تضرر الزراعة

على الرغم من أن العراق لا يعتمد بنحو مباشر على الزراعة الا أنها تعد مورداً مهما لشريحة كبيرة من سكان البلاد ولاسيما في محافظة الأنبار، إذ اعتاد كثيرون على استصلاح أراض زراعية واسعة تكون في العادة بالقرب من الأنهار، لتصبح موردا لهم يديمونه ويتوارثونه فيما بينهم.

“استغلال الأراضي الزراعية في مناطق حوض الفرات يتم عبر عقود يتم تجديدها سنويا حسب الخطة الزراعية” هذا ما يؤكده مدير زراعة الانبار الذي يقول بأن منطقتا الطاش والعنكور هي “أكثر المناطق تضررا جراء توقف مضخات المياه نتيجة انخفاض مناسيب نهر الفرات وجفاف جزء كبير من بحيرة الحبانية اللتين تطلان عليها ليصبح المتبقي من السكان المحليين امام أزمات متعددة في مقدمتها العطش والتلوث”.

“إذا ماكو ماء ما تبقى لا أرض خضراء ولا وجه حسن” يقول المزارع عبد الله ذيبان(60سنة)، وهو يشير الى أبنائه الثلاثة الذين بدت عليهم آثار العطش والمرض واضحة.

هو من بين عدد محدود من مزارعي الطاش والعنكور، قرروا البقاء وعدم ترك أراضيهم الزراعية على الرغم من الجفاف الذي أفقدهم آلاف الدونمات منها، وهم يأملون أن تتخذ الجهات المعنية حلولاً تسهم في عودة الحياة الى أراضيهم التي يأكلها التصحر يوماً بعد آخر.

يقول ذيبان بأنه لايقوى على العيش خارج بيئته الريفية على الرغم من قساوتها نتيجة الجفاف، ويؤكد:”قلة المياه وانعدامها في بعض الأوقات، كانت سببا في انتشار أمراض عديدة بين السكان بسبب عدم قدرة المزارعين على الحصول على مياه جارية واعتمادهم على المياه الراكدة إضافة الى ما تنقله صهاريج بيع المياه”.

الباحث البيئي عبد الرحمن الراوي، يشدد على ضرورة أن يكون للعراق منهجية في التعامل الإيجابي مع البيئة لدعم تنفيذ إجراءات التصدي للأضرار الناتجة عن تغير المناخ والحد منها وتطوير تقنيات حديثة والبدء بممارسات جديدة في ترشيد استهلاك الموارد المائية.

وانتقد الراوي قرارات تقليص الأراضي الزراعية مؤكداً أن “تأثيرها سلبي على الزراعة بشكل عام ونوعية الأراضي الزراعية بشكل خاص وأن غياب المياه عن أي ارض زراعية لأكثر من موسم يؤثر بشكل سلبي على سلامة التربة وقد يحتاج المزارعون الى سنوات عدة وأموال طائلة لإعادة استصلاحها مرة أخرى”.

وكان المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان قد كشف يوم 17حزيران/يونيو 2024، عن خسارة العراق لـ15%من أراضيه الزراعية بسبب الجفاف والتصحر، وان ذلك قد أدى إلى نزوح نحو 100 ألف شخص منذ العام 2016.

وذكر رئيس المركز فاضل الغراوي، بأن مساحة الأراضي المتصحرة في العراق تبلغ نحو 27 مليون دونم، أي ما يعادل تقريبا 15% من مساحة البلاد، فيما نحو 55‎% من مساحة العراق تعد أراضي مهددة بالتصحر، وأشار إلى أن أكثر المحافظات تضرراً هي ذي قار بنسبة تضرر بلغت 53%، أما باقي المحافظات فالنسب فيها تتراوح من 1% إلى 14%.

وكانت الأمم المتحدة قد صنفت العراق سنة 2022 من بين خمسة دول هي الأكثر تأثراً بالتغييرات المناخية على مستوى العالم، وأنه يواجه تحديات متعددة ومتفاقمة ناجمة عن التغييرات المناخية، بما في ذلك “موجات الحر الطويلة، وانخفاض معدل هطول الأمطار، ونقص وفقدان الأراضي الخصبة، وملوحة التربة، وعدم كفاية الاستثمارات في البنية التحتية، ونقص المياه العابرة للحدود، وانتشار العواصف الترابية”.

فيما أكدت منظمة الهجرة الدولية بأن أبرز أسباب النزوح في العراق، ترتبط بالمشكلات البيئية والحصول على المياه، الى جانب تلبية احتياجاتها من الخدمات والبنى التحتية، وتأمين سبل العيش، إذ ان 10% من نسبة السكان النازحين هي بسبب نقص المياه، و8.6% بسبب المعاناة لتلبية الاحتياجات، و8.2% بسبب قضايا الخدمات والبنى التحتية، و7.7% بسبب الاعتماد على الأرض كسبيل للعيش.