تذكّرنا الجنائن البابلية المعلقة بالمعمار الخالد “ تاج محل” في مدينة أغرة – ولاية أتربرديش الهندية، وذلك من نواحٍ متشابهة، وكلاهما من عجائب الدنيا السبع، فمشتركهما المرأة، والحب صانع الخيال العظيم. لذلك نجد في المكانين خلوداً مستمراً في مشوار الزمن وهو يمضي إلى الأمام، فتاج محل (1631- 1648) الذي بناه الإمبراطور المغولي شاه جيهان لتخليد ذكرى زوجته الصغيرة والجميلة ممتاز محل، بقي معمارَ حب شامخاً بتحفته الدنيوية العجيبة.

وعلى طريقة البناء الإعجازي للأهرامات وغموضها العلمي- الفلكي، بنى الملك نبوخذ نصر الثاني (حَكَم بين 605 – 562  ق.م) لزوجته أميديا (ابنة الملك سياخريس) الجنائن المعلقة في بابل، كونها من بلاد جبلية متميزة بمناخها الذي يختلف عن مناخ العراق القديم. وترتب على هذا أن تعاني أميديا من اغتراب مكاني وطبيعة ساخنة لم تعتدْها من لزوجة وحرارة عالية، مما جعلها بما يشبه العزلة، مبتعدة عن الجو الاجتماعي العراقي آنذاك، فقام نبوخذ نصر ببناء الحدائق العمودية المعلقة لها، لتقريب المناخ الذي كانت تعيشه بين أهلها في إيران، فقد اشتاقت المرأة إلى طقسها وبرودة الأثر الذي ظل يطاردها في وحشة الجفاف العراقي القديم.

الشغف الرومانسي الذي ملأ قلب الملك في ذلك الحب التاريخي، ملأ خياله بالمستحيل الممكن له، فأراد أن يطول السماء بحدائق مدرجة صاعدة إلى الأعلى، محفوفة بالأزهار والأشجار والطيور لتكون أعجوبة زمنها القديم. ومثل الأهرامات الفرعونية، لا تزال الجنائن المعلقة تكتنفها أسرار البناء العمودي الصاعد والوجود الحقيقي لها. فإن كانت الاهرامات شاخصة اليوم في منطقة الجيزة المصرية، فإن الجنائن المعلقة بقيت في الأرشيف التاريخي القديم الذي يحتفظ لها بالأعجوبة العمرانية وأسطورتها الغامضة، إذ إن بناءها كان على شكل مدرجات ترتفع إلى السماء تدريجياً، لكنها في تقادم الزمن وصفحات التواريخ المتعاقبة مع تتالي العصور والأحقاب، اندرست كأي شاخص عظيم لم يجد الباحثون الأثريون مكانه إلى اليوم، حتى ظن بعضهم أن الجنائن المعلقة إنما هي أسطورة وخيال تركها لنا الماضي، ولا تعدو كونها حدائق زراعية صاعدة عن مستوى سطح الأرض (كأول زراعة عمودية في التاريخ)، وهكذا نرى بين الإمبراطور المغولي شاه جيهان والملك نبوخذ نصر وحدة موضوعية أسستها المرأة في مكانين وزمنين مختلفين كلياً. تاج محل باقٍ، وجنائن بابل باقية في كتب التاريخ من دون أن تظهر حتى اليوم، فالأول صار قِبلة للسياح من كل مكان في العالم، وبقيت الجنائن البابلية غامضة بين الشك واليقين، سوى ما ذكرته وقائع الماضي من قبل الرحالة ومعقّبي الأثر، منهم الكاهن والفلكي برعوشا ( أواخر القرن الرابع ق.م.) وبيروسوس الكوسي (نحو 290 ق.م.) وما قاله الإغريقي سترابو، من أن الجنائن  تطل على نهر الفرات، وديودور الصقلي الذي كتب أنها أعجوبة زمانها.

من الطبيعي أن يختلف المؤرخون حول الجنائن البابلية المعلقة بحقيقة وجودها من عدمه، لكن ما يستثير الانتباه هو القول من قبل بعض المؤرخين والباحثين من أن الجنائن لم تكن في بابل، إنما كانت في نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية آنذاك. وبين المكانين مئات الكيلومترات، وتختلف طبيعتاهما اختلافاً كلياً. فهل هذا استقراء لواقع المكانين، أو هو خلط تاريخي محتمل بسبب الزمن البعيد الذي يفصلنا عن زمن نبوخذ نصّر؟ أو هو خيال الرحّالة والكتّاب في تلك العصور؟ أو هو من وضع متأخر عن زمن الملك البابلي؟ أو هو حقيقة تأخر اكتشافها؟.

الفكرة كلها قد تكون ملتبسة على الباحثين والمتابعين للشأن العراقي القديم، لاسيما أن موضوعة الحدائق كانت حقيقية في البلاد. مزهرة ولافتة بجمال طبيعتها في بابل الواقعة على نهر الفرات التاريخي، وهذا لا يمنع من وجود حدائق زاهرة أخرى في أي مكان من البلاد، لكن الانتباه يحيلنا إلى أن الحدائق والجنائن العالية لا يشيّدها فقراء القوم، إنما الملوك والأمراء والأغنياء والأسر الارستقراطية في ذلك الوقت، سواء أكانت في بلاد آشور أم في بابل، لكن وثائق ذلك الزمن كانت تنبئ  بأن بلاد آشور بمناخها المعتدل عبارة عن حدائق فارهة وواسعة، قبل أن تكون هناك جنائن بابلية، وما تؤكده اللوحة الآشورية من قصر آشور بانيبال “ الموجودة حاليًّا في المتحف البريطاني بلندن” تشي بأن ازدهاراً جغرافياً آشورياً التبست فيه فكرة بناء الجنائن البابلية، بما يعني أن نينوى الآشورية هي الموقع الحقيقي لها، حتى قيل إن الملك سنحاريب (705-681 ق.م) هو الذي بناها.. فأين هي حقيقة وجود الجنائن؟.

•    استعراض المصادر البابلية وأراشيفها الشخصية لم يُذكر فيها بناء عملاق، كالجنائن، مثلما ذكرته المصادر الإغريقية المتباينة، ولم تقف وتتوسع على إنجاز مثل هذا في عهد نبوخذ نصر الذي ذُكرت إنجازاته العمرانية الكثيرة .. فكيف بصرحٍ عمراني كهذا لا يُذكر؟!.

•    المناخ البابلي شديد الحرارة، ويبدو من الناحية الجغرافية أن بناء جنائن بمدرجات صاعدة إلى الأعلى لتوفير مكان شبيه بالمكان الميدي القديم لزوجة الملك، قد يكون مبالغاً به من ناحية الحجم والاتساع، فالصورة الواصلة عن حدائق بابل وجنائنها مثالية جداً، تحتاج الى أسس عمرانية وعلمية متقدمة على عصرها (لاسيما السّقاية الهيدروليكية) ، وهي صاعدة إلى الأعلى كمدرجات تحفّها البساتين والأشجار، بما يوحي بأنه عمل ري صاعد من قنوات تحت- أرضية. وليس هذا إعجازاً في زمن البناء البابلي، كما الأهرامات الفرعونية، لكن التوثيق الإغريقي من دون البابلي هو الذي يثير الريبة في وجودها ويجعلها من الأساطير القدية ذات الخيال الجامح، أو أن وجودها البابلي غير صحيح.

•    المصادر الإغريقية ليست نهائية في تحديد المكان الآمن للجنائن أو الحدائق العملاقة، وهذا لا يقلل من القيمة العمرانية العظيمة التي كانت عليها، والتاريخ بكل ما فيه من طمر وغموض، قد يظهر في ألواحه المفخورة لاحقاً، ليؤكد المكان الفعلي لها سواء في بابل أو في نينوى الآشورية. وهذا يقود للحديث عن ستيفاني  دالي من جامعة أوكسفورد التي أمضت عشرين عاماً في البحث وفك الرموز السومرية، لتقرأ أحد الرُّقيمات في المتحف البريطاني يبلغ عمره نحو 2500 عام. وأشارت نتائج بحثها المثيرة وبشكل قاطع إلى أن (الوصف التاريخي للحدائق ظاهر وبقوة في قصر سنحاريب في نينوى، الذي عاش قبل نبوخذ نصر بمائة عام..)

إن كان ذلك حقيقياً فلماذا لم تُكتشَف سابقاً ولم تظهر حتى اليوم؟.

والسؤال الطبيعي هو: أين تقع جنائن نينوى؟.