بصخب هائل ترتفع أصوات الموسيقى الشعبية العريقة من بوابة ذلك المقهى الصغير، عند ساعات الصباح الأولى ومع انسدال أستار المغيب، لا شيء يقطع الصخب في السنغال، ذلك البلد الأفريقي ذو التقاليد الراسخة في الفن والسياسة والتصوف.

يحتسي عبدولاي كوبا من قهوة “توبا” -التي تحظى بشعبية منقطعة النظير في السنغال- قبل أن يقضم من شطيرة صغيرة تفوح منها رائحة البهارات الأفريقية، لتبدأ رحلة عمل تنطلق مع الساعة الخامسة صباحا، ثم لا تنتهي حتى تلتقي عقارب الساعة الخامسة من جديد.

لا تعرف دكار وأغلب مدن السنغال النوم، فما إن يؤوب فريق من العمال والسكان إلى منازلهم، حتى يكون آخرون قد نفضوا أردية الراحة، وانطلقوا إلى فجاج أخرى من العمل والإنتاج والفن والترفيه.

دكار مدينة نابضة بالحياة، لا تخلو من فانتازيا دائمة، هنالك أصوات الأذان بنغم أفريقي عريق، تقطع هدأة الليل الذي لا ينام في بعض أحياء دكار بسبب صخب الموسيقي والحفلات، وفي الصباح تتحول الأسواق إلى فضاء للضجيج، الممتزج بالروائح المتناقضة، ما قوي منها واستفز الأذواق، وما طاب وانتشت به الحواس.

ومع أنها مدينة حديثة نسبيا، حيث تأسست على أيدي الفرنسيين سنة 1857؛ فقد ملكت مدينة دكار خلافا لأغلب جاراتها ميناء وسكة حديدية، منذ نهاية القرن الـ19، ومع منتصف الخمسينيات من القرن الماضي بدأت مدارج الجامعات ترتفع في مدن السنغال، وأخذ آلاف الطلاب الأفارقة ينهلون من المعارف التي أخذت لبوسا فرانكفونيا ولسانا وهوية فرنسية.

وفي مختلف مدن السنغال ثمة تقاليد متعددة، ولعل من أشهرها التقاليد النخبوية والشعبوية المتعايشة في مدينة سينلوي أو “اندر” وكانت المدينة السنغالية الأهم خلال فترة الاستعمار، حيث كانت عاصمة لمستعمرات غرب أفريقيا بالكامل.

ومن أبرز هذه العادات، المسيرة المسائية بعد صلاة العصر، حيث يخرج بعض أهل اندر خصوصا المسنين في “ممشى” هادئ بخطوات رتيبة، وذلك ضمن طقس تقليدي يسمى “وختان” يتم خلاله تداول ما استجد من أخبار ونكات وحكم وطرائف.

وفي مدينة اندر ذات التاريخ العريق، قامت حضارة مزجت بقوة بين لغة القرآن ومعارف أهل السنغال، وانتمت إليها أسر علمية كبيرة مثل “آل ابن المقداد” الذين عرفوا بتاريخهم المجيد في العلم والأدب، ومن أشهر أعلامهم الترجمان الشاعر العربي “دود سك” المعروف عند الموريتانيين باسم “محمدن ولد ابن المقداد” وكذا أخواه القاضيان سليمان وعينينَ اللذان تركا بصمات علمية شهيرة خلال القرن الماضي، وكان حجهما وزيارتهما للمسجد الأقصى محطة فارقة سجلتها مدائح وتهاني جيرانهم الشماليين من شعراء موريتانيا.

كما تعتبر اندر أيضا عاصمة وجبة “تيبوجن” (الأرز مع السمك) الشهيرة في السنغال، وفي اندر أيضا يقيم آلاف الصيادين، في منطقة “كت اندر” حيث يلقون شباكهم إلى الأمواج، ويقدمون القرابين “لملكة البحر” قبل أن يبثوها شكواهم من بخل اليم الزاخر، وسطوة الحدود الفاصلة بينهم وبين مواطن السمك على الضفة الموريتانية.

وترتبط الحضارة السنغالية بشكل عام بالنهر والماء، ويقال إن اسم السنغال ما هو إلا تحريف للعبارة “سونغال” أي هذه زوارقنا وهي العبارة التي كانت أول إجابة سنغالية على سؤال الوافد الأبيض وهو يحط مراكبه على الضفة، ليسأل ما هذه، ولتأتي الإجابة “سو نغال” ومنها متبدأ تاريخ أفريقي جديد لم ينته سرد خبره بعد.

يبعد مطار دكار الذي يعتبر من أهم معالمها السياحية حوالي 50 كيلومترا عن وسط المدينة، والأجرة إليه غالية نسبيا تصل إلى نحو 30 ألف فرنك غرب أفريقي أي حوالي 50 دولارا، ورغم أن الطريق سيار سريع، فإن طوابير تسديد رسوم الطريق، مع حرارة الجو أحيانا يضاعف طول المسافة، ويفتح الباب أمام زحمة لا حد لها في العاصمة التي تحتضن قرابة ثلث سكان السنغال.

وتعتمر سيارات الأجرة داخل العاصمة اللون الأصفر، وغالبيتها عتيقة مهترئة، ودون تكييف، ويعلق كثير من السائقين في أعناقهم تمائم وتعاويذ، وعلى أغلب السيارات تظهر صور مشايخ وزعماء الطرق الصوفية في البلاد، كما تنتصب هذه الصور “المقدسة” على المحلات وفي الطرق، حيث يحظى المشايخ في السنغال بتقدير يتجاوز في بعض الأحيان حد التقديس.

وينتشر في السنغال -التي يبلغ عدد سكانها نحو 16 مليون نسمة- العديد من الطرق الصوفية، وأهمها بشكل عام الطريقة المريدية، حيث تنتشر صور مؤسسها الشيخ أحمدو بمب في أغلب المدن، بل وعلى كثير من الصدور في السنغال، ولا يقل حضور الطريقة التيجانية بفروعها المتعددة، عن الظهور صورا على القمصان وتعاويذ على الأعضاد.

وتمتاز المدن السنغالية بكثرة مساجدها ونظافتها وتشابه تصاميمها، وخصوصا تلك المساجد التابعة للطريقة التيجانية الإبراهيمية، ذات القباب والمنائر الخضراء.

ويعود الإسلام في السنغال إلى آماد بعيدة، ويعتقد مؤرخون سنغاليون أن أول تجمع لحركة “المرابطين” الشهيرة في الغرب الإسلامي كانت في أحواز مدينة سانت لويس، فيما يذهب جيرانهم الموريتانيون إلى أن القائد عبد الله بن ياسين الجزولي أقام رباطه الأول قرب جزيرة تيدرة شمالي غربي العاصمة نواكشوط.

وما لا يختلف عليه الطرفان هو عمق وتأثير الإسلام في المجتمع السنغالي، وأن لبوسه الصوفي قد أضفى عليه ظاهرة احتفالية لا تخفى، حيث تكثر الأنشطة والمزارات والمناسبات الدينية التي تخلد غيبة هذا الإمام، ووفاة ذلك الشيخ، وعبور ذلك للبحر، أو غير ذلك من المواسم والمناسبات التي تنتظم الانتماء الصوفي وتدر حركية اقتصادية كبيرة.

وكان لاعتناق ملوك الطوائف السنغالية الإسلام دور أساسي في ترسيخه ومد أطنابه، حيث يعتقد المؤرخ والباحث السنغالي محمد سعيد باه أن إسلام ملك بلاد التكرور وار جابي بن رابيس انجاي (ت:1041م)، كان تحولا أساسيا في تاريخ منطقة حوض نهر السنغال، خصوصا أن بعض قادة المرابطين أصهروا إلى هذا الملك، ليتشكل من ذلك ما يعرف في أدبيات تاريخ منطقة نهر السنغال الفصيل السوداني في جيش المرابطين.

غير أن الإسلام ترسخ بشكل كبير في تلك المنطقة بفعل قوافل التجار والعلماء الموريتانيين الذين توافدوا على السنغال منذ عدة قرون، وتركوا بصمات مؤثرة في حياة الناس، ومع الزمن تحول الإسلام إلى قوة سياسية مؤثرة في المنطقة، وخصوصا مع بروز دولة الأئمة التي مدت أطنابها على ضفة نهر السنغال، وأقامت فتوحات كبيرة، كما دخلت في صراعات بينية عريقة في المنطقة، وزيادة على ذلك كان الأئمة وأتباع الطرق الصوفية من أكبر وأهم مقاومي الاستعمار الفرنسي، وعلى تأثيرهم ركز الفرنسيون محاصرة ومضايقة.

وقد وقف الأئمة ضد تجارة الرق وعدوان السلاطين على شعوبهم، وتحولوا مع الزمن إلى مرجعيات مهمة ومؤثرة في السنغال، كما هو واقع الآن، حيث تقتسم السياسة والدين التأثير في السنغال، وينأى رجال الدين بأنفسهم عن الخوض في يوميات السياسة، كما ينأى السياسيون عن نقد الخطاب الديني السائد، ولكل من الطرفين وجهة هو موليها، وتدر عليه من التأثير والمال والنفوذ ما يكتفي به عن مزاحمة الآخر.