القهوة ليست مجرد مشروب، إنها ثقافة كاملة، وهو ما يثبته تاريخها الحافل بالجدل والذي تحلّق حوله المبدعون من أدباء وشعراء ورسامين وغيرهم. لقد ألهمت القهوة وطقوسها هؤلاء، فنجدها حاضرة عن جدارة في الشعر والأدب وفي اللوحات والأغاني، وحتى في الجلسات الثقافية، حيث منذ نشأة بيوت القهوة والمقاهي وهي قبلة للحركات الفنية والأدبية وملتقى للمثقفين، ومازالت تقاوم طمس معالمها إلى اليوم.

القهوة العربية تاريخ حافل بالعادات والتقاليد، القيم الاجتماعية والثقافية، الذكريات، والحضور الإنساني والجمالي والفني في الأغاني والقصائد واللوحات.. هذا التاريخ يحكيه الشاعر محمد غبريس في كتابه “تاريخ القهوة العربية” حيث يتتبع قصّة اكتشاف القهوة العربية ومراحل تطوّرها ويغوص باحثا عن أصولها وجذورها، ويستعرض سرّ انتشارها عربيا وعالميا وتحوّلها من مشروب عادي بسيط إلى تقليد عالمي إنساني مدهش، لتصبح مع الوقت رمزا من رموز الكرم والضيافة، وتلعب دورا مهمّا في حياة المجتمعات على اختلافها، وفي التعبير عن القيم الاجتماعية والثقافية.

ويتناول غبريس طرق إعداد القهوة وتحضيرها والطقوس المتبعة في تقديمها وشرابها، وهي تختلف بين منطقة وأخرى. ووفقا للعادات والتقاليد، فالقهوة هي التي شجعت على تأسيس المقاهي لتنتشر في كل أنحاء العالم، وتحتضن أهل الفكر والثقافة والفن. ويسلّط الكتاب الضوء على أهمية القهوة في الشعر الفصيح والشعبي مستعرضا مجموعة من القصائد لعدد من الشعراء العرب الذين احتفوا بالقهوة العربية، ونهلوا من مفرداتها العذبة، ووجدوا فيها ملاذا يسكنون إليها، ويطمئنون بنكهتها ورائحتها، وجعلوها طقسا أساسيا من طقوس القراءة والكتابة.

تاريخ جدلي

يشير غبريس في الكتاب الصادر حديثا عن دار “المحيط للنشر” في إمارة الفجيرة، إلى أن القهوة كانت ولا تزال رفيقة المبدعين التي لا تفارق لحظات تجليهم وومضات فكرهم، وهي الساهرة على كتاباتهم ونزيف أقلامهم، والشاهدة على كل دمع سكبوه، وكل حرف عانقوه، وكل حبّ حولوه، إما إلى قصيدة تفيض بالحنين، أو إلى وحة تتلألأ بالذكريات، أو قطعة موسيقى تبعث على الأمل، أو فيلم يشعّ بالدهشة، وهي أيضا النافذة التي تنفتح على البهجة والأفكار واليقظة، تتسلل تحت الجلد وتذوب في الأنفاس. وحدها القهوة تبقى حين لا يبقى أحد، وحين يشتدّ الحزن، ويضيق الكون، ويموج اليأس. وحدها تتّسع إلى كلّ الأحلام والرؤى في كوب صغير يحفظ أسارير اليدين ومتاهات الشفتين، بها يلملم الشعراء حبّات الوقت، ويطلون وجوههم بالصباحات المشرقة، وبها يطلقون خيالاتهم في فضاءات الحكمة وآفاق الكلمة.

ويؤكد أن القصص والحكايات تعدّدت حول مكان اکتشاف القهوة وتضاربت المعلومات عن بداياتها، منها ما ارتبط بالأسطورة، ومنها ما امتزج بالخرافة، وقد ظلّ الناس يتناقلونها ردحا من الزمن، لكن الوقائع والشهادات التاريخية تقول غير ذلك، وأثارت الكثير من التساؤلات والتفسيرات، وبيّنت لاحقا تاريخ اكتشافها ومكان وجودها، وأشارت إلى طريقة انتقالها والتعرّف إلى خصائصها بالصدفة، من بين هذه القصص ترى إحداها أنّ الشيخ العارف بالله أبا بكر بن عبدالله الشاذلي المعروف بـ”العيدروس” الذي عاش جلّ عمره في اليمن، هو مبتكر القهوة المتخذة من البنّ. ومن هنا نلاحظ أنّ انتشار القهوة حسب هذه الرواية أو تلك، قد جرى في وقت متقارب نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر بواسطة الصوفيين.

ويرى غبريس أن “سرّ انتشار القهوة لم يكن لمجرد أنّها مشروب، بل لأنّها شكّلت منبت الضيافة والكرم والخشوع والتفاؤل والأمل، كلّها مفردات أحدثت تغييرا في نظام السلوك الاجتماعي لتحقّق بذلك ثورة تاريخية امتدّت إلى كلّ أصقاع الأرض بمنتهى الشغف والتأييد والحبّ، وقد استطاعت خلال خمسة قرون أن تبني لها أمجادا في كلّ اللغات والحضارات والثقافات”.

الكتاب يبرز أهمية القهوة في الشعر الفصيح والشعبي، مستعرضا مجموعة من القصائد التي تحتفي بالقهوة العربية

ويقول “لما كان المتصوّفة دائمي السياحة والتنقل، فقد استطاع عشّاق القهوة نشر مشروبهم في مختلف الجهات بسرعة فائقة، فتغلغلت في أرجاء الجزيرة العربية، وامتدّت إلى مصر، والشام، والعراق، فشربوها في الحرم الشريف بمكة وفي المدينة المنورة وفي الأزهر، وغيرها من الجوامع”.

ويتابع غبريس لافتا إلى أنه “ما كان للقهوة هذا التأثير والتغلغل في الحياة الشعبية لولا الدور الذي لعبته اجتماعيا وصحيا، كما كان لفوائدها صدى كبير في المجتمعات العربية، وسرعان ما اكتسبت مكانة عالية عند محبيها وأنصارها، واستطاعت أن تكون مادّة غنية واسعة في كتب الأدب والتراجم، لما لها من خصائص وطقوس وفنون، فقد ارتبطت بالضيافة والكرم والمروءة، واحتشدت بمعاني التفاؤل والتواصل، وامتلأت بالدفء والخشوع والعبادة، فيما دخلت في تفاصيل الحياة اليومية، وعبقت بين المواقف والأحداث، فامتدت جذورها إلى عمق المعتقدات، فكانت زينة المجالس وفتنة السمار وسلوة العشاق والغرباء”.

ويرى أنّ المكانة الفريدة التي حقّقتها القهوة في المجتمعات العربية ليس لأنها فقط رمز من رموز الكرم والضيافة والفروسية، بل لأنّها تتميّز بفوائد صحية واستخدامات متنوّعة في الطبّ الشعبي، فهناك من قال إنّ القهوة تساعد على هضم الطعام بعد تناوله، فيما اعتبر آخرون أنّ مسحوق “البنّ” يمكن استخدامه لإيقاف نزف الدمّ عند الإصابة بالجروح.

ويلفت غبريس إلى أنّ القهوة اقترنت في الثقافة العربية بمضامين روحية ودينية، وبمشاعر ومظاهر تعبّر عن الإيمان والعبادة، والطقس الاجتماعي الديني، وهو ما تجلّى عند الصوفيين الذين أغرموا بها، وعشقوا رائحتها، وأجلّوا رمزيتها، فكانت تساعدهم في السهر بالليل لأداء فرائضهم الدينية، وتستحثّهم على الخير والتقوى والتوصّل إلى “الفتح” في العبادة كما يقولون وهو بلوغ أسمى آيات التعبّد والتهجد.

ويتوقف غبريس عند تحريم وتحليل القهوة حيث شهدت على مرّ القرون سجالا حادّا وجدلا كبيرا حولها، بين معارضين ومؤيدين، ذهب الطرف الأول إلى حدّ القول إنّ القهوة حرام، واعتبارها خمرة مسكّرة تُذهب العقل، ومشروبا يحثّ على الرذيلة، بينما اعتبرها الطرف الثاني مشروبا طبيعيا لا ضرر فيه، ودعا إلى الاستمتاع بها، وجعلها رمزا من رموز التواصل الاجتماعي.

ويعتبر أنه لم يكن للقهوة أن تمرّ بما مرّت به من مخاض التحليل والتحريم وملابسات الفسح والمنع لو أن الذين اهتدوا إلى نبتها وتعرفوا على ما تفرزه من مشروب منحوها اسما غير الاسم الذي منحوها إياه، لكي يدفعوا عن القهوة ما لحق بها من شبهة أفضت إلى تنزيلها منزلة المسكر كالخمر والمخدر، فقد حملت هذا الاسم فحملت معه أوزاره.

كذلك يتطرق غبريس إلى الإنتاج الفقهي والأدبي الخاص بالقهوة، من كتب ومخطوطات ورسائل وفتاوى، منها ما يحتفي بالقهوة ومكانتها، ومنها ما يعدّد فوائدها وخصائصها، ومنها أيضا ما يتناول عاداتها وتقاليدها، حيث أثرت المكتبة العربية على مدى تاريخ طويل، وما زالت تثري وتولد الأفكار وتؤثر في المشهدين الثقافي والأدبي. ومن المؤلفات يذكر “إيناس الصفوة” للعيدروس، و”اصطفاء الصفوة لتصفية القهوة” لأبي الحسن محمد البكري الصديقي، و”إتحاف بني الزمن في حكم قهوة اليمن” للزبيدي، و”رسالة في أحكام القهوة” للسيوطي، و”رسالة في الشاي والقهوة والدخان” لجمال الدين القاسمي، و”تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب” لداود الأنطاكي.

القهوة والشعر

Thumbnail

بعد ذلك يتوقف غبريس عند القهوة العربية في دولة الإمارات التي تعدّ عنوانا للكرم والضيافة والفروسية، وهي عناوين شكّلت أهم العناصر الأساسية في الحضارة العربية، وأحد رموز شخصيتها في كلّ مكان، وقد اتخذت الإمارات من ضيافة القهوة تقليدا وطنيا أصيلا يشتمل على حفاوة الاستقبال، وحسن الوفادة، والإكرام المميز، إنها عنصر من عناصر التراث الإماراتي الخالد وإحدى أخلاقيات الأجداد النبيلة.

ثم يتناول إعداد القهوة وطرق تحضيرها والطقوس المتبعة في هذا المشروب، وهو يختلف بين منطقة وأخرى، وفقا للعادات والتقاليد، وهناك شروط محدّدة يجب توافرها في صنع قهوة مميّزة ذات مذاق أخاذ، أهمّها الخبرة والشغف والصبر، لأنّه دون ذلك تفقد القهوة قيمتها ولذتها، ويشعر الضيف بالإهانة والتحقير من أساسيات إعداد القهوة التشريب، حمس القهوة، دقّ البنّ، غلي القهوة، والبهار.

ويستعرض غبريس أيضا الأدوات التي تستخدم في صنع القهوة وتقديمها حيث يُطلق على اسم “المعاميل”، وهي تختلف بين منطقة وأخرى، وبين بلد وآخر في الوطن العربي، سواء بالاسم، أو الأداة، أو طريقة الاستخدام، وتشتمل على: الموقد، والدلال بأنواعها المختلفة، والمحماس، والفناجين، والنجر، والمبرد، والنقرة، والملقاط، والمبخرة، والبيز، والمركا، والمنفاخ، والتاوة.

كما يستعرض طريقة شراب القهوة العربية، وسرّ هزّ فنجان القهوة، إضافة إلى صبة الحشمة وسرّ كأس الماء، موضحا أن مذاق فنجان القهوة يرتبط بطريقة التعامل معها إذ أن التعامل مع القهوة يتطلب قدرا كبيرا من الحنان واللطف، أما صنعها فيستوجب الحب والصبر والمهارة، وذلك للتمتع بمذاقها الشهي العابر للحواس والأزمان، فهو يشكّل قيمة استثنائية وسرا فريدا من أسرار الطبيعة، وجزءا من ذاكرة الأرض. ولمذاق القهوة عدة مصطلحات هي: الرائحة، المذاق، القوام، النكهة.

ويلقي غبريس الضوء على “فناجيل” القهوة العربية، مؤكدا أن لكلّ فنجان قهوة حكاية نابعة من التراث الشعبي الأصيل، ومعبّرة عن القيم الاجتماعية والعادات الموروثة، حكاية تجسّد معاني الجود والشهامة والبسالة، ترصد أنماط سلوك وتفكير شعبية سائدة. ففنجان واحد كفيل بأن يصنع المواقف والأحداث، ويختبر العلاقات المؤثرة، ويخفف من مرارة الواقع والتحديات الجسام برشفة أمل دافئة. ومن الفناجيل: فنجان الهيف، فنجان الضيف، فنجان الكيف، فنجان السيف، فنجان الخطبة، فنجان الثأر، فنجان الأحزان.

ثم يتطرق إلى دواوين القهوة التي عرفت تاريخيا بدورها القبلي ومكانتها الاجتماعية والثقافية، وكانت تستخدم سواء للتسلية، أو الاحتفال، أو التواصل، أو لمناقشة القضايا وحلّ النزاعات، وكان يجتمع فيها الناس من كافة الفئات وطبقات المجتمع، يتقدّمهم بعض الشعراء فينشدون قصائدهم على رائحة القهوة المنبعثة من الدلال وبصحبة صوت الربابة المفعم بعبق الصحراء.

ويتوقف الكاتب أيضا عند بيوت القهوة – المقاهي حيث اكتسبت منذ إنشائها أدورا مختلفة، منها كفضاء للتواصل والتلاقي، ومنها للتسلية والترفيه، وأخرى كمتنفس ومساحة للحوار والإبداع، وقد ارتبطت بتحولات المدن وتطورها، وبالظروف السياسية التي أحيطت بها، بعضها اقترن بأسماء وشخصيات فكرية وأدبية، والبعض الآخر جسّد الهوية والتراث العربيين، وأصبحت المقاهي منابر لصنع التغيير وإطلاق الثورات، إذ كل مقهى منها يمثّل وحدة سياسية، واقتصادية واجتماعية وإنسانية.

ويسلّط غبريس الضوء على أهمية القهوة في الشعر الفصيح والشعبي مستعرضا مجموعة من القصائد لعدد من الشعراء العرب الذين احتفوا بالقهوة العربية، ونهلوا من مفرداتها العذبة، ووجدوا فيها ملاذا يسكنون إليها، ويطمئنون بنكهتها ورائحتها، وجعلوها طقسا أساسيا من طقوس القراءة والكتابة.

ويختم بالإشارة إلى تحوّلات القهوة، موضحا أنها تغيّرت في عالمنا اليوم، وتأثّرت بتحوّلات العصر، وسيادة أفكار وثقافات جديدة، وأصبحت تقدّم بنكهات وأشكال لا تعدّ ولا تحصى، أفقدت رونقها وروحها وخصوصيتها، كذلك تعدّدت أماكن شربها بدءا من المقاهي الفخمة الشهيرة وصولا إلى المقاهي المحلية البسيطة، وتعددت طرق تقديمها بأساليب حديثة وسريعة تبعدها عن أصالتها وهويتها، وتفرغها من أسرارها.