في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي مربعاً سكنياً في مدينة الفالوجة بمخيم جباليا داخل قطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد وإصابة العشرات؛ بمكانٍ ليس ببعيد عن الحي الذي ارتكبت فيه إسرائيل مجزرة أخرى بالمخيم قبلها بيوم واحد، أسفرت عن استشهاد وإصابة حوالي 400 فلسطيني.

وللمدينة تاريخٌ طويل من الصراع مع الاحتلال، فقد عاشت ما يُعرف بـ”حصار الفالوجة”، أول معارك النكبة في قطاع غزة. بدأ الحصار في نهاية العام 1948 خلال الحرب العربية الإسرائيلية حين اتحد نحو 6 آلاف فلسطيني مع 4 آلاف جندي مصري لمواجهة العصابات الصهيونية التي حاصرتهم، في معركةٍ استمرّت لشهور.

عام 1948، ألغت بريطانيا انتدابها على فلسطين بعد قرار الأمم المتحدة بتقسيمها إلى دولتين: يهودية بمساحة 54.7%، وعربية بمساحة 44.8%، على أن تكون مدينتا القدس وبيت لحم تحت الوصاية الدولية.

رفضت الدول العربية هذا القرار، وأعلنت الحرب العربية على إسرائيل، فشنّت كلّ من: مصر، والأردن، والعراق، وسوريا، ولبنان هجوماً عسكرياً شاملاً ضدّ الميليشيات الصهيونية المسلحة في فلسطين، المشكّلة من البالماخ والهاغاناه والإرغون، إضافةً إلى متطوعين يهود من خارج حدود الانتداب البريطاني على فلسطين.

أرسل الملك فاروق جيشاً مؤلفاً من 10 آلاف جندي، كان الأكبر عدداً، تحت قيادة الجنرال أحمد علي المواوي الذي خاض معركتين مهمّتين جداً: معركة نيتسانيم، ومعركة الفالوجة.

معركة الفالوجة وإصابة عبد الناصر

تقع الفالوجة على بُعد 30 كلم من شمال شرقي مدينة غزة، وتتوسط الطريق الذي يربط غزة بالخليل، مع مساحة 38 ألف دونم. كان اسم البلدة قديماً زريق الخندق، لكنه تبدّل تكريماً لشهاب الدين الفالوجي، الصوفي العراقي الذي جاء إلى فلسطين في القرن الـ14.

بدأ حصار الفالوجة في مايو/أيار 1948، عندما حاصرت العصابات الصهيونية اللواء المصري الرابع بقيادة العميد سيد محمد طه (الملقب بـ”الضبع الأسود”) المتمركز في قرية عراق المنشية، القريبة من غزة والفالوجة.

العميد سيد طه، الذي كان قائد الكتيبة المصرية السادسة، هو سوداني الأصل. وفي الواقع، كانت القوات المصرية المحاصرة مكوّنة من 3 كتائب: الأولى، والثانية، والكتيبة السادسة؛ وقد شكّل بعضهم فيما بعد ما يُعرف بـ”تنظيم الضباط الأحرار”، الذي ثار ضدّ الملك فاروق.

خدم جمال عبد الناصر ضمن كتيبة المشاة السادسة،  وكان رئيس أركانها، وعملياً كان حصار الفالوجة أول معركة عسكرية في حياة عبد الناصر.

سكان بلدة الفالوجة بعد أن حوصرت لشهور طويلة/ Wikipedia
سكان بلدة الفالوجة بعد أن حوصرت لشهور طويلة/ Wikipedia

صباح السبت 15 مايو/أيار 1948، أصدر الجنرال المواوي أمراً إلى الكتيبتين الأولى والسادسة للهجوم على مستعمرتي “كفار داروم” و”الدنجور”، اللتين تسيطران على محور المواصلات الرئيسي إلى مدينة غزة.

في كتابه “يوميات عن حرب فلسطين“، يصف عبد الناصر أجواء معركة الفالوجة بـ”العجيبة”، مشيراً إلى أن الجيش المصري لم يكن على أتم الاستعداد لها، لأنه لم يملك الوقت الكافي لاستكشاف هدفه، ولا المعلومات اللازمة.

اتكلت الكتيبة السادسة على دليلٍ عربي واحد، كان مسؤولاً على قيادة الكتيبة إلى موقع مستعمرة الدنجور، من دون أن يكون على علمٍ بتحصيناتها أو دفاعاتها. فكان يُدلي بمعلوماتٍ غير واضحة وغير دقيقة، حتى وصلت الكتيبة إلى المستعمرة وفوجئت بتحصيناتها.

يقول عبد الناصر في مذكراته: “لم يسترح الجنود بعد الرحلة الشاقة، إنما اندفعوا إلى الأسلاك، ولم يكن هناك من يعرف ما الذي يجب فعله على وجه التحديد. لكن المدافعين عن الدنجور كانوا يعرفون، وقد أُصيبت الكتيبة بخسائر لم تكن متوقعة”.

ويتابع قائلاً: “عند الظهر، أصدر القائد أمره بالابتعاد عن الدنجور، فعادت الكتيبة إلى رفح لتجد بلاغاً رسمياً أُذيع في القاهرة، يقول إننا أتممنا عملية تطهير الدنجور بنجاح”.

تسلّمت الكتيبة السادسة زمام الأمور في غزة، متحركةً من رفح. وفي 12 يوليو/تموز 1948 حاولت قوات الجيش المصري استعادة مستعمرة “نجبا”، لكنها فشلت وانتهت المعركة بهزيمتها بعدما تحوّل الهجوم إلى كارثة.

أُصيب جمال عبد الناصر في هذه المعركة برصاصةٍ كادت تودي بحياته، لأنها كانت قريبة من قلبه، لكن القدر أسعفه “لاسيما أن الإصابة كانت غريبة، كما قال لي الطبيب”، وفق ما ذكر في مذكراته عن حرب فلسطين.

تفاصيل حصار الفالوجة

بحلول شهر سبتمبر/أيلول، كان قد شُفي عبد الناصر لكن العصابات الصهيونية كانت قد حاصرت الجيش المصري المتمركز في الفالوجة وعراق المنشية، الذي رفض كل عروض الاستسلام على ما يقارب الـ7 شهور.

انقطعت خطوط إمداد الجيش المصري من غذاءٍ وسلاح، فعاش الجنود مع الفلسطينيين حياة تكاتفٍ وإصرارٍ على المواجهة. فكان السكان يحرصون على تأمين الطعام للسكان وكل ما يحتاجونه، وسخروا أنفسهم لخدمتهم.

في حديثٍ إلى “الجزيرة.نت“، يقول محمد مصطفى النجار، وهو شاهد على تلك المرحلة: “على مدى شهور، اعتمد الجنود المصريون على ما يتوفر في الفالوجة من حبوب وأغنام وأبقار، فكانوا يشترون ويعطون السكان أوراقاً تُثبت لهم الثمن، لاسترداد القيمة من مقرّ القيادة المصرية في بيت لحم لاحقاً”.

ويُشير النجار إلى أن الجيش استنفد كل الطعام الذي يملكه خلال حصار الفالوجة، كما أن القصف الإسرائيلي على سكان البلدة لم يتوقف، بهدف دفعهم إلى الرحيل. ويضيف: “القوات المصرية اختارت منزلنا نقطة مراقبة، نظراً لموقعه المرتفع، فلجأنا إلى منزل أخوالنا”.

يروي ابن البلدة عن قساوة المشاهد التي رآها جراء القصف الإسرائيلي خلال حصار الفالوجة، حين كان في السابعة من عمره، وكيف رأى فتاةً مذبوحة ومرمية على طريق عودته إلى المنزل الذي اكتشف أنه دُمّر بالكامل، وأن شقيقتيه تناثرت أشلاؤهما بسبب القصف.

يؤكد محمد النجار أن كل ذلك وأكثر كان كفيلاً بدفع سكان البلدة إلى مغادرتها، إلا أن العميد سيد طه أصرّ على القتال حتى اللحظة الأخيرة، رافضاً أوامر قيادته في القاهرة بالانسحاب إلى غزة ثم مصر.

ما علاقة أم كلثوم بحصار الفالوجة؟

في برنامجه “الإكسلانس“، يروي أحمد القصبي ضمن حلقةٍ خاصة بعنوان “حصار الفالوجة وأم كلثوم” حادثة طريفة في مضمونها، لكنها تشرح الكثير عن روح الجيش المصري ومعنوياته.

يحكي القصبي أنه فُقد الاتصال بين قيادة الجيش المصري والقوات المحاصرة في الفالوجة، حين ساء الوضع كثيراً جراء القصف الإسرائيلي. لكن قيادة الجيش تمكنت من التواصل مع بعض المتطوعين الفلسطينيين الذين استطاعوا الوصول إلى القوات المحاصرة.

سألت القيادة قواتها عن مطالبها، فجاءها الردّ الغريب: “نريد أغنية”. وفي ذلك الوقت، كانت أم كلثوم تستعد لحفلتها المقبلة التي تُقام كالعادة في أول خميس من كل شهر. فطلبت القوات المحاصرة من وزارة الحربية أن تغني الست في الحفلة أغنية “غلبت أصالح في روحي”.

الأغنية، وهي من كلمات أحمد رامي وألحان السنباطي، كانت قد غنتها أم كلثوم قبل عامين؛ لكن حيدر باشا، وزير الحربية، أبلغ أم كلثوم بطلب القوات المحاصرة. فما كان منها إلا أن غيّرت برنامج الحفل وغنّت “غلبت أصالح في روحي”، وأضافت إليها أغنية “أنا في انتظارك”.

بعد عودة القوات المصرية إلى القاهرة، حرصت على أن تقيم لهم وليمة في منزلها، وأن تلتقط الصور معهم، كما تشير بعض المراجع إلى أنها غنت لهم في حديقة فيلتها.

أم كلثوم وسط الجنود المصريين/ مواقع التواصل
أم كلثوم وسط الجنود المصريين/ مواقع التواصل

الهدنة والانسحاب من الفالوجة

وفق الجزء الثاني من كتابه “العروش والجيوش – يوميات حرب فلسطين 1948″، يروي محمد حسنين هيكل كيف استطاعت هيئة مراقبي الأمم المتحدة أن ترتب اجتماعاً بين الأميرالاي السيد طه والقائد الإسرائيلي للجبهة الجنوبية -ويُدعى آللون- في مستعمرة جات، يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1948.

حضر الاجتماع أركان الكتيبة السادسة، ومن ضمنهم الرائد جمال عبد الناصر، ووجّه خلاله آللون إنذاراً مبطناً إلى طه، حين راح يشرح له صعوبة موقفه في حصار الفالوجة، وبالتالي فإن الأفضل له ولقواته القبول بـ”الاستسلام المشرف”، بدلاً من تكبّده خسائر لا معنى لها.

ألمح آللون -طبقاً لهيكل- أن طه يستطيع الخروج بقواته إذا انسحب الجيش المصرى كله من فلسطين، وإذا قبلت الحكومة المصرية مبدأ عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل، لكن طه رفض الإنذار وردّ بالتجاهل، حين خرج ومعه جمال عبد الناصر.

يضيف هيكل: “أرسل طه إلى القائد العام المصري بمضمون الرسالة، وطلب توجيهه. فأخبره بأن يبحث الموضوع على أساس الخروج بكامل السلاح، أو البقاء في مكانه. فذهب طه مع جمال عبد الناصر لإيصال الرسالة”.

ويختم قائلاً: “دام الاجتماع مع آللون ثلث ساعة وقوفاً، ولم ينتهِ لشيء لأن آللون كان يريد من القوات المصرية أن تترك سلاحها وتذهب. كانت مشاركة عبد الناصر بعبارة واحدة هي: ليس كما تظن، قالها عندما سمع آللون يقول: موقفكم يائس، ولا أمل لكم إلا ما أعرضه عليكم.

استمر حصار الفالوجة واستهداف القوات رغم قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، وقد أظهر أفرادها ثباتاً ومسؤولية عالية، جعلت من الحصار رمزاً للصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي. لكنها في نهاية المطاف، حوصرت من قبل العصابات وسط صحراء النقب.

انتهى القتال في يناير/كانون الثاني 1949 بعد استيلاء إسرائيل على معظم منطقة النقب، وتطويق القوات المصرية، حين بدأت مفاوضات في جزيرة رودس اليونانية بين إسرائيل والدول العربية بوساطة الأمم المتحدة.

تم التوقيع بعدها على اتفاقيات الهدنة الأربعة تباعاً، التي تم فيها تحديد الخط الأخضر، مع امتناع العراق عن التوقيع على الهدنة. وفي 7 مارس/آذار 1949 وصّى مجلس الأمن بقبول إسرائيل عضواً كاملاً في الأمم المتحدة، وقد أقرّتها الجمعية العامة في مايو/أيار.