تذرف الدموع لأسباب مختلفة، ربما الحزن أو الغضب وأحيانا الفرح وفرط السعادة، وبرغم أهمية البكاء للصحة الجسدية والنفسية للإنسان، واعتبار الدموع أحد أهم وسائل التنفيس عن المشاعر، فإنه أحيانا ولأسباب يجهلها حتى أصحابها، قد يتوقف انهمار الدموع.

ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يتابع الكثيرون تطورات الأوضاع في قطاع غزة، عبر صور وفيديوهات تفضح حرب الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها آلاف الشهداء أغلبهم من النساء والأطفال.

حالة من التعاطف الإنساني تجتاح العالم بأسره مع مأساة الفلسطينيين، لكن “لماذا لا أبكي؟”، تتساءل السيدة الأربعينية شيرين محروس التي تتابع الأحداث يوميا، ولا تتوقف عن التنقل بين منصات التواصل الاجتماعي لمتابعة الجديد وأخبار المقاومة.

تتعاطف شيرين مع القضية الفلسطينية منذ صغرها، فقد عاصرت أحداث الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية، معاهدات السلام وحل الدولتين، والجدار العازل، واستشهاد محمد الدرة، واغتيال الشيخ ياسين، في كل مرة كانت تبكي، وتصرخ وتدعو على الجبناء، لكنها لا تعرف ماذا أصابها هذه المرة، لا تزال تصرخ وتدعو وتقاطع كل منتج داعم للكيان المحتل، لكنها لا تعرف أين ذهبت دموعها، تقول شيرين “عيناي لا تستجيب، رغم قسوة ما أشاهده من صور وفيديوهات، رغم الألم في فيديوهات الأطفال واستشهادهم أو استشهاد ذويهم، لا أعرف لماذا لا تطاوعني عيناي”.

من بين الأسباب الأكثر شيوعا للبكاء لدى البالغين هو “البكاء التعاطفي”، ويأتي في المرتبة الثالثة بعد الانفصال والفقد، وفق دراسة نشرها “بامبد سنتر”، الموقع المعني بنشر الدراسات العلمية، عن البكاء التعاطفي.

وذهب الباحثون إلى أن البكاء التعاطفي مزيج معقد من الظواهر الفسيولوجية والعاطفية، ولا يمكن للنظريات النفسية القياسية للعاطفة أن تنسب البكاء إلى قسم واحد من الجهاز العصبي اللا إرادي، وتشير النتائج إلى أن دموع التعاطف هي جزء من تفاعل داخلي يتعلق بالتجارب والسمات الشخصية للفرد تنطلق مع الدموع في شكل تنفيس أو كجزء من الحزن المشترك.

في إحدى الرسائل التي وردت لأستاذ الطب النفسي، الدكتور محمد طه، تساءلت سيدة عن أكثر ما يؤرقها “أنا عندي مشكلة (…) لماذا لا أبكي؟”.

يجيب الطبيب النفسي أن الأسباب التي قد تؤدي إلى هذه الحال قسمان، الأول يتعلق بجفاف العين مثلا، أو خلل ما أصاب القنوات الدمعية. ثم يتطرق للسبب الأهم وهو السبب النفسي، حيث أكد أن العقل لديه وسائل دفاعية يستخدمها في الأوقات الصعبة ضد الألم النفسي الشديد، والتي قد تدفعنا للخوف الشديد أو القلق المفرط أو الحزن العميق.

في بعض الأحيان المشاعر من شدة غليانها تتجمد، ومن شدة عمقها تتسطح، وذلك من أجل حمايتنا، وبهذه الطريقة تعمل المشاعر عكس قوانين الطبيعة، ذلك أن العقل الذي سمح بمرور بعض الحزن إلى مشاعرك، لا يسمح بتدفق ذلك الحزن إلى ما لا نهاية لأن ذلك سيصيبك بالضرر الذي قد لا يتحمله جسدك ونفسك على حد سواء.

البكاء راحة

يقول أستاذ علم النفس بجامعة بنها، الدكتور مدحت جاد الرب إن “الدموع راحة يؤجلها البعض أحيانا لوقت فيه رفاهية البكاء”.

وأضاف جاد الرب “في بعض الأوقات هناك أدوار أخرى يستلزم القيام بها أن يكون الشخص على قدر من القوة النفسية، فيضطر لكبت مشاعره وأحزانه ليقوم بدوره كما يجب، وهو ما نشاهده الآن على الشاشات، فأكثر الباكين هم الجالسون في المنازل يتابعون من بعيد، أما أصحاب القضية فهم يمارسون حياتهم ومهامهم اليومية، حتى إنهم يجلسون للسمر ويتندرون على طائرات العدو، كل هذا وهم في قلب المحنة، وهذا هو ما يسمى في علم النفس “الوسائل الدفاعية” التي تحميهم من الانهيار في مثل هذه الأوقات”.

ويؤكد جاد الرب أن التعاطف تختلف أشكاله باختلاف المراحل العمرية التي نمر بها، لذا فإن أغلب البكاء يأتي من المراحل العمرية الأصغر سنا، الذين لا يملكون للقضية ضرا ولا نفعا، وربما بعضهم يسمع عن القضية الفلسطينية للمرة الأولى، لكن في المراحل العمرية الأكبر، يبدأ نوع آخر من مشاطرة الحزن، ومشاركة العمل ودعم القضية بالتبرع أو الدعوة للمقاطعة، أو النزول للساحات، أو برفع علم فلسطين فوق المنازل، كلها مواقف تضامنية بعيدة عن البكاء لكنها تمنح الأشخاص رضا عن أنفسهم وتخفف عنهم بعض من جلد الذات الذي ينهكهم لكونهم لا يد لهم ولا حيلة في رفع الأذى عن أشقائهم.