تتميز اللهجة العراقية بعديد من الألفاظ والمصطلحات والسياقات الفريدة التي يعود بعضها إلى عصور فجر الحضارة في بلاد الرافدين.

وتأثرت مفردات القاموس العراقي كثيرا بما شهدته البلاد من غزوات على مر العصور، إذ تبادلت التأثير اللغوي مع تلك الحضارات. وتركت اللغة السومرية، التي تعد أقدم لغة مكتوبة في العالم، بصمتها في كثير من المصطلحات الزراعية والتجارية والقانونية.

يرى الأكاديمي والباحث الدكتور فالح حسن الأسدي أنه لا بأس من الاطلاع على اللهجات المحلية في المنطقة وأرشفتها والغوص في تاريخها والتغييرات التي طرأت عليها عبر الزمن، لكن ينبغي عدم إحلال اللهجة العامية العراقية بدلا من العربية الفصحى.

ويشير الأسدي -في حديث مع الجزيرة نت- إلى أن اللهجة العراقية انفردت بعدد كبير من المفردات والأساليب التي تميزها عن اللهجات الأخرى.

وتعود أسباب تمسك العراقيين ببعض الكلمات الموغلة في القدم ودمجها مع العربية ولغات العراق الأخرى إلى تركيبة العراقي ومزاجيته، فهو يحافظ على أصالته من جهة ويندمج مع الحديث من جهة أخرى، فالعراقي متفتح وغير منغلق على نفسه، بل يتفاعل مع الحضارات الأخرى في أنماط الحياة كافة، ومن بينها اللغة.

ويوضح الأسدي أن المقصود هنا اللغة الشفاهية الدارجة بين العوام، إذ تختلف حسب مناطق العراق، بينما اللغة المستخدمة في وسائل الإعلام تكون أقرب إلى الفصحى.

وتضم اللهجة العراقية مجموعة من الكلمات المتداولة التي توارثتها الأجيال عبر العصور، والتي يعود أصلها إلى آلاف السنين.

ومن الأمثلة على الكلمات القديمة -بحسب الأسدي- استخدام كلمة “زَقْنبوت” عند الدعاء على الشخص بالشر، وتعني في اللغة الأكدية “السم”، وكذلك من الكلمات الماثلة على لسان العراقيين كلمة “شِعْواط”، وهي كلمة آرامية تعني “رائحة الحريق”، وهناك كلمة “سَنْطة” التي يستعملها العراقيون بمعنى الهدوء والسكينة، وأصلها كلمة آرامية تحمل المعنى نفسه.

والأكدية لغة سامية شرقية قديمة تعد من أقرب اللغات للعربية القديمة.

ويتابع الأكاديمي العراقي أن من الاستعمالات أيضا كلمة “تَنْبَل” وجمعها “تَنابِل”، وهذه المفردة تعني الكسول في السومرية، ويطلقها العراقيون على الشخص كثير النوم والعاطل عن العمل.

ويبين الأسدي أن بعض الكلمات القديمة قد تلبس لباسا دلاليا جديدا في كل وقت وزمن، فمثلا اللاحقة “جي” دلالتها القديمة تدل على لفظة الاحترام، لكن العراقي أضافها إلى المهنة، مثل “باجة جي” وغيرها.

ويفضل عموم العراقيين إحياء اللغة العربية الفصحى، لأن لغة الضاد هي اللغة المشتركة مع الدول العربية، وليست هناك نزعة قوية للهجات القديمة رغم وجود مختصين يقومون بدراسة اللغات القديمة، حسب الأسدي.

وتعتبر الأكدية والسومرية (لغة معزولة لاسامية ولا تشترك في أصولها مع اللغات العاربة) من أقدم اللغات المكتوبة التي وصلتنا منها رُقم طينية، كتبت بالحروف المسمارية، وتعود إلى 5 آلاف سنة قبل الميلاد، ثم تبعتها الآرامية وهي لغة عاربة سامية قديمة لا تزال مستخدمة بشكل محدود بين أتباع الكنائس المسيحية السريانية في سوريا والعراق، وما زالت بعض مفردات هذه اللغات مستعملة إلى يومنا هذا، لا سيما في اللهجة العراقية، حسبما يوضح الباحث في اللسانيات ماجد الخياط.

ويؤكد الخياط -للجزيرة نت- أن قائمة المفردات تطول، ومنها أداة الفلاح لصعود النخل “التِبَلْية”، وكذلك اسم النخلة الصغيرة “تَاله”، و”حِب” وهو وعاء كبير من الطين يحفظ فيه الماء، و”حَالوب” للمطر المتجمد، وكذلك كلمة “زُوري” وهو السمك الصغير، و”جِرّي” لنوع من أنواع السمك ليست له حراشف، وأسماء بعض النباتات مثل “كُرَاث، كَمّون، شّنّان”، فهذه جميعها كلمات سومرية ما زالت حية في اللهجة العراقية.

وهناك كلمات أخرى في اللهجة العراقية أصولها أكدية وآرامية، مثل “شَبّوط” وهو نوع من الأسماك الكبيرة الحجم، و”عَكروكـ” بمعنى الضفدع، و”بُوري” بمعنى أنبوب، و”جَرخ” بمعنى عجلة أو أسطوانة دائرية، و”هَسّه” بمعنى الآن، و”كِتْلي” بمعنى الغلاية، حسب الخياط.

ويعزو الخياط سبب احتفاظ العراقيين ببعض الكلمات القديمة كونهم أخذوها من أفواه المناطق التي لم يصلها التمدن، ولم يحتكوا بأقوام أخرى، كما أن العراقيين لم يستسيغوا بعض الكلمات العربية، إضافة إلى تراجع التعليم في تلك المناطق، فضلا عن أن اللغة العربية ليست لغة أصيلة لسكان العراق.

ويلفت الباحث في اللسانيات إلى أن بعض الكلمات العربية من أصول سومرية وأكدية، ومنها كلمة “مشْط” وهي آرامية، وكلمة “جرّة” وهي سومرية، و”مِزمار” وهي سومرية، و”دُمْية” وهي سومرية كانت تعني التمثال الصغير، و”زَقْزَقة” وأصلها سومري، وكذلك كلمة “العقرب” وهي أكدية كانت تلفظ “أكربا” والعراقيون إلى الآن يسمونه “عكربة”.

ويشير الخياط إلى أن بعض الباحثين في مجال فقه اللغة يعملون على نشر بعض أصول هذه الكلمات، لتجديد التعريف بها، حيث جمعت في أكثر من كتاب، وهناك بعض البرامج التراثية عبر الإذاعة والتلفزيون تحرص على التذكير بها.

من ناحيته، يؤكد الكاتب والباحث الاجتماعي علاء الوردي أن العراقيين القدماء تداولوا كثيرا من اللغات المحكية غير المكتوبة، ومنها لغة الفراتيين الأوائل الذين كان قد استوطنوا جنوب العراق قبل السومريين.

ويضيف الوردي -في حديثه للجزيرة نت- أن اللغة السومرية تبقى أقدم لغات العالم من حيث تاريخ التدوين، ولا يمكن مقارنتها بأي لغة أخرى، كونها اللغة الوحيدة في العالم القديم التي كانت محكية ثم مكتوبة لاحقا.

يشار إلى أن اختراع الكتابة البكتوغرافية (الصورية)، ثم تطورها إلى الحروف المسمارية، جعل اللغة السومرية لغة المخاطبات بين دويلات المدن السومرية، والأقوام التي تسكن بلاد الرافدين.

ويلفت الباحث الاجتماعي إلى أن مفردات اللهجة العراقية القديمة كانت اللغة الدبلوماسية الأولى في العالم القديم، إذ وجدت كثير من الرسائل المتبادلة بين الفراعنة المصريين والآشوريين والبابليين وغيرهم مكتوبة باللغة الأكدية والخط المسماري السومري، وعرفت باسم رسائل “تل العمارنة”.

ويشير الوردي إلى أن اللغة السومرية ومفرداتها نقلت العالم القديم من عصور ما قبل التاريخ إلى عصور ما بعد التاريخ، إذ كانت بداية التدوين الذي سجل إنجازات الحضارات الأولى للبشرية التي وصلت إلينا مكتوبة على الرقم والألواح الطينية باللغة السومرية والخط المسماري.