عندما قامت الثورة الفرنسية سنة 1789، كان شعارها هو “الحرية والمساواة والأخوة”، لكن في الحقيقة ذلك الشعار لم يكن سوى أسطورة، فالثورة الفرنسية التي توصف بأنها عرّابة الحداثة في أوروبا لم تطبّق تلك الشعارات حتى على مواطنيها الفرنسيين، فعندما صُدم سكان مدينة فونديه الفرنسية الواقعة غرب فرنسا من معاملة الثوار الفرنسيين للملك والكنيسة، وحاولوا الانتفاضة على النظام الجديد سنة 1793، فيما يعرف بـ إنتفاضة فونديه، انتقمت منهم الحكومة الفرنسية شرّ انتقام، فقُتل نحو 200 ألف فرنسي في الإقليم المنتفض في ظرف 3 سنوات فقط.
فونديه المدينة المتدينة التي لم تنضم إلى الثورة الفرنسية
عندما كان الثوار الفرنسيون يخلعون أسوار سجن الباستيل معلنين عن انتصار الثورة الفرنسية، كان هناك إقليمٌ في فرنسا غير متحمسٍ لهذه الثورة، هذا الإقليم هو فونديه الواقع غربي فرنسا، وبالضبط جنوب نهر لوار وعلى ساحل المحيط الأطلسي، الذي كان ينتظر حدثاً آخر ليثور وهو إعدام الملك لويس السادس عشر.
كان اسم المنطقة في ذلك الوقت Bas-Poitou، وكانت منطقة ريفية فقيرة، وفضلاً عن الفلاحين، كان يسكنها جميع طبقات المجتمع الفرنسي حينها، من فقراء وأرستقراطيين وبرجوازيات صغيرة وكهنة فقراء، لذلك كانت التفاوتات الاجتماعية أقل وضوحاً هنا من أي مكان آخر في فرنسا.
ميزةٌ أكبر لهذه المنطقة عن بقايا الولايات والأقاليم الفرنسية، هي أنّ فونديه كانت متديّنة جداً، ولعلّ ذلك كان السبب الذي جعل هذه المدينة لا تتحمس لثورة الفرنسيين، فقد كانت الثورة الفرنسية ضد المسيحية، ومع علمنة الكنسية، وهي الخلفية التي ستجعل فونديه تثور على الثورة الفرنسية فيما بعد.
فبسبب جهود المبشر لويس دي مونتفورت في أواخر القرن الثامن عشر، تم طرد معظم البروتستانت من فونديه، ما سمح للكنيسة الكاثوليكية بالترسخ بعمق في الحياة اليومية بالإقليم، فقد كانت الكنيسة هي الغراء اللاصق الذي يربط الجيران المعزولين معاً. وخلافاً لبقية مناطق فرنسا، كان الفلاحون في فونديه يتمتعون بشكل عام بعلاقات أفضل مع النبلاء. تسبب هذا الشعور بالألفة في أن يشعر الفلاحون في فونديه بمرارة أقل تجاه نبلائهم بشكل عام، وهو الأمر الذي يفسّر الوحدة التي تشكلت بين شرائح المجتمع في إنتفاضة فونديه.
ما سبب إنتفاضة فونديه على الثورة الفرنسية؟
صحيح أنّ إقليم فونديه لم يكن له دورٌ في الثورة الفرنسية، لكن لم يعارض الثورة من الناحية الأخلاقية في بدايتها، إذ رحبت المدينة بقانون العقارات العامة لعام 1789، وطالبوا الجمعية الوطنية الجديدة التي نشأت بعد الثورة، بخفض الضرائب، وتقليل الفساد في المحاكم، وتحسين الطرق.
لكن علاقة المدينة مع الثورة، سرعان ما تحوّلت إلى معارضة عندما انتهجت الحكومة الفرنسية للجمهورية الأولى سياسة صارمةً ضد الملك والكنيسة، فقد بدأ الثوار مبكراً في اتباع سياسات معادية للكنيسة الكاثوليكية، وهي الإرهاصات التي سبقت إنتفاضة فونديه.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1789، أمرت الجمعية الوطنية بمصادرة ممتلكات الكنيسة وتأميمها، وفي يوليو/تموز 1790، أقرت الدستور المدني لرجال الدين، الذي أخضع الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية إلى الدولة وطلب من جميع رجال الدين أداء قسم الولاء للكنيسة وفقاً للدستور الجديد.
تسبب الدستور المدني الفرنسي في حدوث انقسام داخل المجتمع الديني في فرنسا، خاصة بعد أن شجبه البابا وأدان الثورة برمتها. رفض جميع أساقفة فرنسا البالغ عددهم 160، باستثناء سبعة فقط، أداء القسم.
بدأت الجمعية الوطنية الفرنسية تنظر إلى الكهنة الرافضين للقسم على الدستور على أنهم أعداء للثورة، وأمرت باستبدالهم بآخرين دستوريين، كان ذلك الأمر البذرة الأولى التي أشعلت نار إنتفاضة فونديه، كون الفونديين كانوا متدينين جداً إلى حدٍ يساوي انتماءهم الوطني.
كانت هناك أسبابٌ أخرى غذّت غضب فونديه من سياسات الحكومة الفرنسية، مثل إلغاء النظام الملكي ومحاكمة وإعدام لويس السادس عشر، لكن لم تأتِ نقطة التحول حتى فبراير/شباط 1793، عندما دعت الجمهورية الفرنسية الجديدة 300 ألف شاب للتجنيد من أجل القتال في جيوشها، وهو الأمر الذي لم يكن مقبولاً عند سكان إقليم فونديه، ودعاهم إلى الانتفاض على الحكومة الفرنسية، وفقاً لدائرة المعارف البريطانية.
إنتفاضة فونديه.. حين ثارت مدينة صغيرة على الثورة الفرنسية
لم تبدأ إنتفاضة فونديه بطبقة الأرستقراطيين، بل من قبل الفلاحين، ففي مارس/آذار 1793، نزل الآلاف من الفلاحين إلى القرى التي قيل إن المجندين يعملون فيها. واحدة من هذه كانت قرية مشيكول.
في 11 مارس/آذار من تلك السنة، اجتاح جيش من الفلاحين القرية مسلحين بالمذاري وسكاكين السلخ وبنادق الصيد، هرب الحرس الوطني بسرعة في مواجهة الحشد ونُهبت منازل أي شخص معروف للجمهورية، واقتيد سكانها إلى الخارج وتعرضوا للضرب.
انتشرت الثورة الصغيرة لتصبح تمرداً واسع النطاق. بحلول منتصف مارس/آذار، بدأت مجموعات فردية من المتمردين في الاندماج في جيش موحد، وأصبح يُعرف باسم جيش “البيض” نسبةً إلى قطع القماش الأبيض التي قاموا بتثبيتها في ملابسهم على شكل زي موحد.
صحيحٌ أنّ شعب فونديه كان في أغلبه من الفلاحين، لكن خلال انتفاضهم أبرزوا جانباً من قوتهم وتنظيمهم الهائل، فقد كانوا مقاتلين شرسين، ففي المرحلة الأولى من انتفاضة فونديه، حققت جيوش الفونديين وحلفائهم الملكيين سلسلة من الانتصارات، واستولوا على عدد من المدن.
ويمكن تفسير ضراوة انتفاضة فونديه وقوتهم بعدة أسباب؛ أهمها الإيمان الديني، وحب الحرية، والتضامن الشعبي، ومعرفة تضاريس المكان، فالطرق عميقة محاطة بالسياجات تمنع البصر وتساعد على الكمائن، والمساكن موزعة، والمزارع معزولة، والطرق والتجمعات السكنية نادرة، بجانب أن قواتهم تميزت بالتنظيم العقلاني للقوات، بما جعل من الممكن الجمع بين القتال ومواصلة الزراعة.
مجازر فونديه.. الوجه البشع للثورة الفرنسية
واجهت الجمهورية الفرنسية الفتية، صراعاً وجودياً في صيف عام 1793، وذلك بعد أن تعرضت للهجوم من جميع الجوانب، ومن أجل البقاء، أدركت سريعاً أنها بحاجةٍ إلى إخماد انتفاضة فونديه بشكلٍ سريعٍ، وذلك وفقاً لـalphahistory.
في 19 مارس/آذار، تجاهلت الجمعية الوطنية الفرنسية الفروق الدقيقة للتمرد ووصفت إنتفاضة فونديه بأنه “مؤامرة أرستقراطية”، وأمرت القوات الفرنسية بإطلاق النار على أي شخص يرتدي زماماً أبيض في غضون 24 ساعة.
في 1 أغسطس/آب، دعا السياسي الثوري برتران باريير إلى اتخاذ تدابير “لإبادة هذا العرق المتمرد”، مطالباً بتحويل Vendée إلى صحراء غير صالحة للسكن كمثال للخونة المحتملين.
كانت تلك مقدماتٍ لمصير فونديه الأليم، فقد أجاز المؤتمر الوطني الفرنسي بالفعل عهد الإرهاب، وسمح بتشكيل 12 فرقة عسكرية تسمى “الأعمدة الجهنمية” (Infernal Columns)، تحت قيادة الجنرال لويس ماري توريو.
اجتاحت هذه الأعمدة نهر فيندي في النصف الأول من عام 1794. وعبرت المقاطعة وهدمت المباني وحرقت المحاصيل وتركت الموت والدمار في أعقابها، وكان حصيلة عمليتها التي استمرت حتى 1796، مقتل أكثر من 200 ألف فرنسي، أي 20% من سكان الإقليم.
وارتكبت الأعمدة الجهنمية جرائم وحشية في حقّ جنود وسكان فونديه، حتى إنّ نهر فونديه تكدّس بجثث الفونديين، كما تمّ حرق النساء من أجل استخراج الدهن منهن!