في 24 مايو/أيار 1571، عاشت مدينة موسكو الروسية واحدةً من أصعب لحظاتها، فقد كانت نيران الحرائق مشتعلة في كل زاوية من المدينة، ورائحة الموت والخراب تزكم الأنوف، بعد أن تكدست عشرات الآلاف من الجثث فوق بعضها، وعرف ذلك الحدث باسم حريق موسكو (Fire of Moscow)، في أعقاب الغارة العنيفة التي شنَّها ضدها فرسان خانية تتار القِرم وحلفاؤهم العثمانيون، وذلك رداً على هزيمة التتار والعثمانيين في حملة أستراخان قبلها بعامٍ واحدٍ.
فخلال 6 ساعاتٍ فقط، نجح فرسان التتار المدعومون من الدولة العثمانية التي كانت تعيش حالة حربٍ مع الإمبراطورية الروسية في حرق مدينة موسكو، وجعلها مدينة غير صالحة للعيش لسنواتٍ طويلة، حتى إنّ إيفان الرهيب الذي فرّ يومها من المدينة، لم يعد إلى موسكو خوفاً من تذكر مشاهد حرقها من قبل التتار وحلفائهم العثمانيين.
وكانت تلك المرة الأولى التي تتعرض فيها موسكو لمثل هذا الدمار منذ ما يقارب قرنين من الزمن، وتحديداً عام 1382م عندما اجتاحها تتار القبيلة الذهبية، انتقاماً لهزيمتهم على يد الروس في موقعة كوليكوفو عام 1380م.
خانية القرم.. الدولة الصغيرة التي قهرت جيوش روسيا القيصرية بمساعدةٍ عثمانية
كان وصول التتار إلى الأراضي الروسية مبكراً، فبعد نجاح تتار القبيلة الذهبية في اكتساح الأراضي الروسية والسيطرة على موسكو في القرن الرابع عشر، تشكلّت العديد من الكيانات السياسية في روسيا، أبرزها دوقية موسكو الكبرى، التي كانت نواة بناء روسيا القيصرية فيما بعد.
كما تشكّلت العديد من الدويلات الصغيرة التي أُطلق عليها “الخانيات”، أبرزها في منطقة القوقاز مثل خانية قازان وخانية أستراخان وخانية القرم، إحدى أبرز الإمبراطوريات المغولية في التاريخ، بينما كان إيفان الرابع الملقب بإيفان الرهيب يؤسس الإمبراطورية الروسية انطلاقاً من دوقية موسكو الكبرى سنة 1547.
وسريعاً، سقطت كلٌ من خانية قازان وخانية أستراخان في قبضة قيصر روسيا إيفان الرابع بين عامَي 1552 و1556.
بينما ظلّت خانية القرم شوكة في حلق الإمبراطورية الروسية الحديثة، فلم تنجح حملات القيصر إيفان الرهيب في الوصول إلى الخانية وضمها إلى حدود إمبراطوريته الشاسعة.
فقد نجحت خانية القرم في التصدي للجيوش الروسية من عام 1552 وحتى عام 1783، ويُرجِع المؤرِّخون هذا الصمود التاريخي الطويل إلى تحالفها مع الدولة العثمانية، تلك القوة الصاعدة في ذلك الوقت، والتي كانت في حرب ضروس مع روسيا.
فمع تضاعف التهديدات حولها، قام خان خانية القرم، بالاستنجاد بالعدو اللدود للإمبراطورية الروسية المتمثل في الدولة العثمانية.
فلم تكن خانية القرم دولة ذات نفوذ وقوة عسكرية لتكون مؤهّلة لمناهضة الأطماع الروسية في ذلك الوقت، ما دفعها لطلب الحماية من العثمانيين في مواجهة الأخطار الخارجية.
وبالفعل في عام 1475، اتفق السلطان العثماني محمد الفاتح مع خان القرم، منكلي كيراي خان الأول، على فرض الحماية العثمانية على الخانية، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخها.
حريق موسكو.. اليوم الأسود في تاريخ العاصمة الروسية
بحسب المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية“، كانت التوسعات الروسية باتجاه القوقاز، القشة التي قصمت ظهر العلاقات الروسية العثمانية، لتبدأ إثرها سلسلة من الحروب بين البلدين، عرفت تاريخياً باسم الحروب العثمانية الروسية.
كانت المحطة الأولى من هذه الحرب، انتصار الإمبراطورية الروسية على العثمانيين وتتار القرم، فبعد فشل الحملة العسكرية التي قادها السلطان سليم الثاني في عام 1569م، وبالتعاون مع خانية القرم، من أجل انتزاع مدينة أستراخان الاستراتيجية التي احتلّها الروس قبل 13 عاماً، حان وقت الانتقام.
لم يكن الانتقام من تلك الهزيمة عثمانياً هذه المرة، بل تكفلت به خانية القرم بنفسها، فبعد عامين من تلك الهزيمة، وفي شتاء عام 1571م، قرَّر خان القرم دولت كيراي شنَّ حملة عسكرية انتقامية ضد الإمبراطورية الروسية، لكن كان هدفها مفاجئاً وجريئاً للغاية، وهو ما عرف تاريخياً بإسم حريق موسكو
فقد قررت خانية القرم مباغتة موسكو عاصمة القيصر إيفان الرهيب.
ومن خلال جيش قوامه أكثر من 120 ألف مقاتل مدجّج بالمدفعية الثقيلة، توغّل جنود خانية القرم داخل أراضي السهل الأوراسي الكبير حتى وصلوا إلى قلب موسكو، ويذكر المؤرخ التركي أوزتونا أنّ بعض الكتائب العثمانية، لا سيَّما المدفعية، شاركت في حملة تتار القرم لحرق موسكو.
أحرق جنود تتار القرم مدينة موسكو، ودمروها بشكلٍ كبيرٍ، بينما فرّ إيفان الرهيب برفقة جنوده، تاركين موسكو تعيش قدرها مع تتار القرم.
ووفقاً لهينريش فون ستادن، وهو جندي ألماني في خدمة إيفان الرهيب، فإنّ موسكو احترقت بالكامل في غضون 6 ساعات فقط.
تذكر الروايات التاريخية أنّ سكان المدينة اضطروا إلى القفز في نهر موسكو من أجل الهروب من حريق موسكو، كما تراكمت الجثث في الطرقات.
إذ تشير الروايات إلى أن نهر موسكو امتلأ عن آخره بالجثث، بعدما أمرَ القيصر بإلقاء الأشلاء من الطرقات إلى النهر من أجل تمهيد الطريق أمام المارّة، فيما ذكر بعض المؤرِّخين، ومن بينهم جيروم هورسيي، أن مسألة إزالة جميع الجثث من النهر والشوارع استغرقت عاماً كاملاً من كثرتها وتزاحمها.
وتقدَّر خسائر حريق موسكو، بنحو 80 ألف قتيل، بجانب أكثر من 150 ألف أسير، فيما سيطرَ تتار القرم على خزانة موسكو والعديد من الموارد بها، واضطر بقية سكان المدينة إلى الفرار إلى المدن المجاورة بعدما تحولت بيوتهم إلى أكوام من الرماد.
يذكر المؤرخ أوزتونا، أن حريق موسكو قد أحدث فارقاً جيوسياسياً وتاريخياً هائلاً، إذ أسهم في انتهاء حقبة أسرة روريك في تاريخ روسيا القيصرية، وبداية عصر أسرة آل رومانوف في الربع الأول من القرن التالي، وسقوط روسيا في دوامة من الضعف والاضطراب ستستمر لما يقارب القرن، حتى يظهر قيصر روسي آخر بالغ الشهرة هو بطرس الأكبر، والذي يعتبر المؤسس الحقيقي لروسيا الإمبراطورية.