غالباً ما يُطلق على أبقراط لقب “أبي الطب”، بحُكم الثورة التي أحدثها في هذا العلم بعد الممارسات الطبية التي كانت سائدة من قبله، والتي كانت تعتمد على الخرافات في تشخيص الأمراض وعلاجها.

بدأت البشرية في ممارسة الطب منذ 3 آلاف عام قبل الميلاد. ومنذ ذلك التاريخ حتى الآن، مرّ الطب بمراحل عدة، من الشعوذة والسحر، مروراً بالتجربة والتحليل، وصولاً إلى تأسيس علمٍ كامل متكامل.

والحقيقة التي لا جدال فيها هي أنه لا يمكن الحديث عن تاريخ الطب وتطوّره، من دون ذكر الطبيب اليوناني أبقراط (Hippocrates)، نظراً لإسهاماته الجليلة التي يمتدّ أثرها إلى اليوم في المجال الطبي.

هذا فضلاً عن “قَسَم أبقراط” الشهير، الذي ما زال حاضراً بقوة في عددٍ كبير من مدارس الطب وكلياتها في العالم، والذي يردّده طلاب الطب لدى تخرّجهم وقبل بدء مزاولتهم المهنة.

قبل التعرّف إلى سيرة أبقراط، من المهم الإشارة إلى أن أفضل أطباء العالم في العصور القديمة كانوا موجودين في مصر القديمة، وأشهر الوصفات الطبية خرجت من عندهم؛ لكن حادثة وحيدة غيّرت كل هذا الاعتقاد، وكانت كفيلة ببداية نهضة الطب اليوناني.

في إحدى صولاته، أُصيب ملك الفرس (دارا الأول) في قدمه. ونظراً لشهرتهم، لجأ إلى الأطباء المصريين -بدلاً من الفرس- لمعالجته، خصوصاً أن الألم كان شديداً.

لم يستطع المصريون أن يخففوا من آلام دارا الأول، الملقب بـ”داريوس”، بل زادت أوجاعه لدرجة أنه لم يعرف النوم على مدى أيام. حينها، طلب الملك المساعدة من طبيبٍ يوناني كان أسيراً لدى الجيش الفارسي.

استطاع الطبيب اليوناني تخفيف آلام دارا الأول، والأهم أنه عرف كيف يعالج قدمه بشكلٍ تام. هذا الطبيب اليوناني ليس إلا أبقراط، الذي سيكون لاحقاً السبب في تأسيس علم الطب وانتشاره في العالم.

رسم تصوّري لدارا الأول/ وكيبيديا
رسم تصوّري لدارا الأول/ وكيبيديا

قبل أبقراط.. كيف كانت الناس تتعالج؟ ومن كان يعالجها؟ 

في العصور القديمة، كانت الأمراض بالنسبة إلى الناس غامضة وخفية ولا يُعرف كيف ولماذا تصيبهم. ولذلك ربطوها بالعوالم الخفية، سواء كانت الآلهة أم الشياطين أم الجن. والحل الوحيد بالنسبة إليهم تمثل باللجوء إلى المعابد والصلاة إلى آلهة معيّنة.

وحين كان يشتدّ مرضهم وتطول فترة إصابتهم، كانوا ينامون في ساحات المعابد بانتظار العلاج. ومع الوقت، بدأ الكهنة يشعرون بنوعٍ من المسؤولية تجاه المرضى، فكانوا يحاولون مساعدتهم.

وفي حين كانت هناك معابد انتشر فيها العلاج بطريقةٍ خرافية جداً، معتمدة على التعاويذ والسحر وما شابه، كانت معابد أخرى تحاول -من خلال كهنتها- معالجة الناس بطريقة علمية نوعاً ما.

اعتمدوا على الحوار مع المرضى لتهدئة النفس، وجرّبوا أنواعاً مختلفة من الأعشاب والنباتات لمساعدتهم في العلاج، حتى كوّنت بعض المعابد مع الوقت فكرة عن كيفية التعامل مع أنواعٍ مختلفة من المرض من خلال الخبرة التي اكتسبها الكهنة.

قد تتساءلون: كيف تعلّم أبقراط الطب؟ 

وُلد أبقراط في جزيرة كوس اليونانية عام 460 قبل الميلاد، لعائلة طبية يونانية شهيرة، هي أسرة أسقليبيوس. وأسقليبيوس هو شخصية قديمة، عُرف عند اليونان طبيباً، لكنهم ما لبثوا أن جعلوه إلهاً ورمزوا إليه بصولجان يلتف حوله ثعبان.

في كتابه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء“، يروي ابن أبي أصيبعة كيف كانت أسرة أسقليبيوس تتوارث صناعة الطب من الأب إلى الولد وولد الولد، وكيف كان الطب حكراً على تلك العائلة، التي لطالما نُظر إليها على أنها من نسل الآلهة.

بقيت الأسرة تتناقل خبراتها في الطب عن طريق المخاطبة فيما بين أفرادها؛ وإذا ما جرى تدوينها، يكون ذلك بشكلٍ مقتضب، وبأسلوبٍ كتابي يحمل الكثير من الألغاز حتى لا يفهمها إلا أفراد أسقليبيوس.

وقد ورث أبقراط علوم الطب عن أبيه وجده، ولكنه أصرّ على نشر العلم بعدما رأى قلة عدد نسله، فخاف على ضياع الصناعة واختفائها.

معبد أسقليبيوس اليوم/ وكيبديا
معبد أسقليبيوس اليوم/ وكيبديا

كان أبقراط آخر فردٍ من نسل العائلة، وكان مهتماً كثيراً بالطب، فقرّر نشر علوم الطب من خلال الكتابة. وقد علّم الطب لمن اعتقد أنه يستحق ذلك، ولمن كان يرغب بذلك بشكلٍ حقيقي.

وأخذ يؤلف في الطب محاولاً نشره وتعميمه، وتعليمه حتى للغرباء عن “العائلة المقدسة”، شرط أن يُحلّفهم بالالتزام بعهدٍ ووصيةٍ وضع ملامحهما تباعاً وعُرفت بـ”قَسَم أبقراط”. فكانت هذه بداية مجموعة الكتب الضخمة، المعروفة باسم “فصول أبقراط”.

فصول أبقراط، من الكتب التي غيرت التاريخ، وهي مجموعة كتب يونانية كان لها الفضل في نشر علم الطب، بعيداً عن سلطة الكهنة في المعابد وبعيداً عن أساطير الدجالين التي كانت مسيطرة على حياة الناس في علاج الأمراض.

والحقيقة أن كتب أبقراط ليست جميعها من تأليفه، لأن تلامذته -في حياته وبعد مماته- كانوا يضيفون أبحاثهم وأفكارهم إلى نصوص أستاذهم، على النهج نفسه. فـ”المجموعة الأبقراطية” مثلاً قد تمّ ترتيبها وتجميعها في مكتبة الإسكندرية بالقرن الثالث قبل الميلاد.

تُرجمت هذه المجموعة مرات عدة إلى اللاتينية في فترة حكم الرومان، وإلى العربية خلال الحضارة الإسلامية في القرن الثالث والرابع الهجري، فانتشرت كثيراً وكان تأثيرها واضحاً على أشهر الأطباء المسلمين، مثل: ابن النفيس، وابن سينا.

واللافت أن هذه المجموعة تم اكتشافها مرة أخرى في أوروبا خلال عصر النهضة، وطُبعت أكثر من مرة، وكان لها دورٌ كبير في نهضة الطب مرة جديدة في العصر الحديث.

وهكذا بعد أن كانت العلوم الطبية حكراً على عائلاتٍ محددة، يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، ويجب ألا يتعلمها أحد خارج نطاق العائلة. بدأ أبقراط بتعميمها، وكان أول طبيبٍ اتخذ له تلاميذ يُعلّمهم ويتبعون نهجه.

أدوات جراحية يونانية قديمة كان أبقراط يستعملها/ وكيبيديا
أدوات جراحية يونانية قديمة كان أبقراط يستعملها/ وكيبيديا

تلقّى تعليمه على يد والده الكاهن 

وفقاً لموقع Discoveringkos اليوناني، فإن أبقراط تعلّم الطب من والده هيراكليدس، الطبيب الكاهن في معبد أسقليبيوس، ثم درس في مدرسة “كينديان” للطب لكنه رفض تبني نظرياتها.

فقد اشتهرت بتركيزها على التشخيص. ونظراً لاعتمادها على افتراضاتٍ خاطئة حول جسم الإنسان، فإنها فشلت في تمييز مرضٍ عن آخر، لا سيما حين تتشابه الأعراض.

لا توجد مراجع تاريخية كثيرة تتحدث عن حياة أبقراط، ولكن موسوعة Larousse الفرنسية ذكرت أنه، وبعدما اكتسب قاعدة صلبة في مجال الطب بجزيرة كوس، أصبح طبيباً مُتمرساً وذاع صيته بوصفه مُعالجاً ماهراً ومتجولاً.

فقد كان يُداوي المرضى من مدينةٍ إلى أخرى، بموازاة تعميق معرفته في علم الأمراض والعلاج. وبعد عبوره البحر الأسود، وصل إلى آسيا الصغرى، ثم عاد إلى كوس حيث أسّس مدرسته الطبية عام 420 قبل الميلاد.

بعد فترة طويلة من تأسيس مدرسته الطبية الأولى، ترك مهام التدريس بها، فخلفه صهره. وغادر أبقراط كوس مع اثنين من أبنائه، إلى مدينة لاريسا حيث أسّس مدرسة جديدة، وقضى بقية حياته فيها حتى وفاته.

وقد اختلف المؤرخون حول تاريخ وفاة أبقراط، لكن من المُرجح أنه توفي بين عامَي 375 و351 قبل الميلاد، وفق ما ذكره المؤرخ اللبناني عيسى إسكندر المعلوف في كتابه “تاريخ الطب عند الأمم القديمة والحديثة“.

مخلّص البشرية من الأوهام

فَصَلَ أبقراط الطب عن الدين، واعتمد على العلامات السريرية في تشخيص المرض وعلاجه. كان أول من دعا إلى ضرورة تقوية الجسد من أجل تعزيز مناعته، كما أصرّ على اتباع نظامٍ غذائي صارم في مواجهة المرض.

كان يركز على المريض، بالتزامن مع المرض، وآمن أن لكلّ حالة مرضية تفسيراً علمياً، عكس ما كان منتشراً في عصره. فتعامل مع الجسم البشري، باعتباره كتلة واحدة مترابطة.

رسم توضيحي لقصة أبقراط حين يرفض هدايا الإمبراطور الأخميني أرتحشستا / وكيبيديا
رسم توضيحي لقصة أبقراط حين يرفض هدايا الإمبراطور الأخميني أرتحشستا / وكيبيديا

قدّم أبقراط وصفاً دقيقاً للعديد من الأمراض، أبرزها داء السل، والتشنج النفاسي. كما أشار بدقة إلى العلامات التي تُنذر باقتراب الموت، فأصبحت بعض أقسام الجراحة الخاصة به -والمعروفة بـ”الأبقراطية”- الأشهر بلا مُنازع حتى أواخر القرن الـ18.

كان أول من وصف مرض الالتهاب الرئوي والصرع عند الأطفال، وأول من قال إن أساس الصحة هو الطعام الصحي، والهواء النقي، والنظافة، والراحة. والأهم أنه كان أول طبيبٍ يعتقد أن الأفكار والمشاعر تأتي من الدماغ، وليست من القلب، كما أصرّ آخرون في عصره.

أدرك أبقراط ضرورة وجود الاحترافية والانضباط عند ممارسة مهنة الطب، فشجع على تسجيل الأساليب والاكتشافات الطبية بطريقة واضحة وموضوعية، لمساعدة الزملاء في تشخيص ومراقبة مسار المرض وعلاجه.

تميّز أبقراط كذلك بأنه أول من أشار إلى وجود اختلافات في أعراض المرض بين مريضٍ وآخر، وأوضح أن بعض الأشخاص تكون لديهم القدرة على التعافي أفضل من غيرهم. وقد ذاع صيته كثيراً، لدرجة أن الملوك صاروا يرسلون بطلبه، للحصول على مشورته الطبية.

بفضل أبقراط، خرج الطب من مرحلة بدائية كان فيها مجرّد ممارسة عفوية، مرتبطة بمعتقدات أسطورية، إلى مرحلة جديدة يستند فيها العلاج إلى معرفة عقلية نقدية، وإلى الخبرة المهنية.

علاوة على ذلك، يُحسب لأبقراط أنه مهّد الطريق أمام الطب نحو الملاحظة العلمية، القائمة على المعاينة السريرية، وتقديم الأدوية، والبحث عن الأسباب الملموسة، بعيداً عن حيّز الخرافات والشعوذة.

رسم توضيحي للمقعد الذي كان يستعمله أبقراط في الجراحة/ وكيبيديا
رسم توضيحي للمقعد الذي كان يستعمله أبقراط في الجراحة/ وكيبيديا

قَسَم أبقراط.. الميثاق الأخلاقي لمهنة الطب 

لا يمكن الحديث عن أبقراط من دون ذكر ريادته في تأسيس أخلاقيات العمل الطبي، التي يتضمنها القَسَم الشهير المعروف بـ”قَسَم أبقراط”، والذي يؤديه كل مَن يتخرج مِن كليات الطب حول العالم إلى اليوم؛ وإن كان بصياغات مختلفة تلائم العصر، لكنها تحمل الروح القديمة نفسها.

وقسم أبقراط هو بمثابة الميثاق الأخلاقي لمهنة الطب، ويشدّد على ضرورة نزاهة الطبيب وصدقه وتقديره للعلم الذي تلقاه، والتزامه بنقله إلى الأجيال الجديدة، من دون إغفال مبدأ السرية الطبية.

اشترطه أبقراط للمرة الأولى على الطلبة الذين تم قبولهم في مدرسته الطبية الأولى بكوس، ومن المرجح أنه قد قرر تطبيقه بعدما فتح المدرسة أمام الطلبة، غير المنتسبين إلى عائلة أسقليبيوس.

يُوصي القسم طالب الطب بعهد أخلاقي من أبرز ما ورد فيه: ضرورة احترام المعلم ومساعدته، وتعميم الخبرات الطبية للأبناء، والابتعاد عن فعل الشر أو إلحاق الأذى بالناس، أو السعي نحو إجهاض الجنين. أيضاً يحثّ القسم كل مقبل على مهنة الطب على تقديم المساعدة للجميع، ذكوراً أو إناثاً، أحراراً أو أرقّاء دون تمييز. ويختتم القسم بكون الطبيب النموذجي لا يُفشي أبداً أسرار مرضاه، ومن يُذيعها فقد أخلّ بفروض مهنته.

من أهم ما جاء في النص الأصلي لقسم أبقراط: “أقسم بأبولو الطبيب وإسكولابيوس والصحة والشفاء، وجميع الآلهة والآلهات، أني -حسب قدرتي وحكمتي- سأحفظ هذا القسم وهذا الشرط، وأرى أن المعلم لي هذه الصنعة بمنزلة آبائي، وأواسيه في معاشي”.

وفي مكانٍ آخر، جاء في القسم: “كل المنازل التي أدخل إليها لمنفعة المريض، وأنا بحال خارجة عن كل جور وظلم وفساد إرادي مقصود إليه في سائر الأشياء.. وأما الأشياء التي أعانيها في أوقات علاج المرضى، أو أسمعها في غير أوقات علاجهم، من الأشياء التي لا يُنطق بها خارجاً فأمسك عنها، وأرى أن أمثالها لا يُنطق به. فمن أكمل هذه اليمين ولم يفسد شيئاً كان له أن يكمل تدبيره وصناعته على أفضل الأحوال وأجملها، وأن يحمده جميع الناس فيما يأتي من الزمان دائماً، ومن تجاوز ذلك كان بضدّه”.

مخطوطة بيزنطية من القرن الثاني عشر لقسم أبقراط/ وكيبيديا
مخطوطة بيزنطية من القرن الثاني عشر لقسم أبقراط/ وكيبيديا

الطب الحديث دحض بعض نظريات أبقراط 

رغم إسهاماته الكبيرة في العلوم الطبية، إلا أن الطب الحديث دحض بعض نظريات أبقراط، على غرار الفكرة التي تقول بأن جسم الإنسان يتكون من 4 سوائل أساسية تسمى “الأخلاط”، وهي: الدم، والبلغم، والعصارة الصفراء، والعصارة السوداء.

كما دحض تصوّره للدورة الدموية؛ فالهواء، حسب رأي أبقراط، هو الدافع الحيوي الضروري لحركة الدم التي يختلط بها، في حين أن الحقيقة -التي يؤكدها الطب الحديث- هي أن الدورة الدموية تمدّ خلايا الجسم، عبر الدم، بالأوكسجين والمواد التي تحتاجها للبقاء على قيد الحياة.

ورغم أن أبقراط ألّف العديد من الكتب والرسائل الطبية المختلفة، إلا أن هناك الكثير من الكتب والمقالات التي نُسبت إليه من قبل تلاميذه والأطباء الآخرين المعاصرين له، الذين ساروا على نهجه واتبعوا فلسفته الطبية الخاصة.

مؤرخو تاريخ الطب أطلقوا عليها اسم “المجموعة الأبقراطية”، ويتراوح عدد كتبها بين 72 و76 كتاباً تشمل 53 موضوعاً مختلفاً، وقد تم نشرها ونقلها وترجمتها إلى اللغات العربية والإنجليزية والألمانية.

ومن أشهر تلك الكتب “كتاب الأمراض الحادة”، ويدور محتواه حول الأمراض وأدويتها، ويضمّ 3 مقالات. الأول يتحدث عن كيفية تدبير الغذاء والاستفراغ في الأمراض الحادة، والثاني يشرح كيفية المداواة بالتكميد والفصد، ويُشير إلى تركيب الأدوية المسهلة وما إلى ذلك، أما الأخير فيتحدث عن التداوي بالخمر والماء البارد والاستحمام.

وله كتاب شهير آخر اسمه “كتاب الأجنَّة “، ويتضمن 3 مقالات حول تكوين الأجنة. يتحدث الأول عن تكوّن المني، والثاني عن تكوّن الجنين، والأخير يتمحور حول تشكل أعضاء الجسم.

رغم بعض نظرياته التي أثبت الطب الحديث خطأها، يبقى أبقراط مؤسّساً فعلياً لعلم الطب، وقد كان تأثيره كبيراً ودوره مهماً في انتشار العلوم الطبية. تأثر بأفكاره الكثير من الأطباء العظماء، الذين جاؤوا من بعده، مثل: جالينوس، وأبي بكر الرازي، وابن سينا.