لم يكن جورج واشنطن أول رئيسٍ أمريكي وحسب، فهو أيضاً القائد العام للقوات المسلحة للجيش القاري خلال الحرب الأمريكية الثورية، وأحد الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن قاد التمرّد الذي انتهى بإعلان انفصال بلاده عن بريطانيا عام 1783.
أُطلق اسمه على العاصمة السياسية للبلاد، وعلى العديد من المطارات والجامعات، كما طُبعت صورته على العملة الوطنية “الدولار”، ويُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه بطل قومي حتى لُقّب بـ”أبو الحرية”.
لكن إلى جانب كلّ ذلك، لجورج واشنطن تاريخ أسود وطويل يضعه في مكانة العنصريين. فقد استعبد الناس طيلة حياته، منذ أن كان في الـ11 من عمره، وكان نشطاً في تجارة الرق، كما تحايل على القانون حتى لا يمنح الحرية للمستعبدين.
قصص كثيرة انتشرت عن تعامله مع العبيد، وكيف كان يشتريهم ومن ثم يبيعهم، وبعض الحكايات تروي كيف حاول بعضهم الهرب من مزرعته في “ماونت فيرنون”.
حكم جورج واشنطن الولايات المتحدة على مدى عهدين رئاسيين، من العام 1789 إلى 1797، فكرّس وقته لإعادة تنظيم البلد الذي دمرته الحرب وأنهكته، كما قام بإصلاحاتٍ ضريبية لم تُرضِ الجميع، ودخل في حروبٍ مع القبائل الهندية، في سعيه للتوسع نحو الغرب.
لكنه فضّل الحياد في الحرب التي اندلعت عام 1793 بين فرنسا وبريطانيا العظمى، وهو الحياد الذي سمح له -في سنة 1794- بالتوقيع على “اتفاقية لندن” مع القوة الاستعمارية السابقة، والتي تمّ من خلالها تسوية كل المشاكل العالقة منذ الاستقلال.
غادر جورج واشنطن كرسي الرئاسة في العام 1797، وعاد للعيش في مزرعته “مونت فيرون”، لكن الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، جون أدامز، كلّفه بقيادة جيوش البلاد التي كانت على وشك الدخول في حربٍ مع فرنسا.
لكن الأمور هدأت وعاد واشنطن إلى عمله كمزارعٍ كبير، قبل أن يموت في ديسمبر/كانون الثاني 1799، نتيجة التهاب حاد في الحنجرة، ويُدفن في مقبرة العائلة بـ”ماونت فيرنون”.
خلال جنازته، قيلت كلمات تأبينية تضمنت عبارات مثل: “الأول في الحرب، الأول في السلم، والأول في قلوب مواطنيه”.
وحاول موقع متحف “مونت فيرون” الدفاع عن جورج واشنطن في الاتهامات التي طالت تاريخه مع الاستعباد، مشدداً على أن الرئيس الأول للولايات المتحدة كان يعامل عبيده بلطف، ويترك لهم حرية المعتقد، وأن عدداً كبيراً منهم لم يكن ملكاً له، بل لزوجته.
وقد أشار الموقع إلى أن العقوبات التي كان يطبّقها عليهم لم تكن قاسية، مقارنةً بتلك التي كان ينتهجها المُلاك الآخرون، وأنه ترك وصية قبل وفاته يطالب فيها بتحريرهم تلقائياً بعد وفاة زوجته مارثا.
لكن الواقع يُشير إلى أنه وخلال حياته، اعتمد واشنطن على قوةٍ عاملة متنوعة من العبيد. فبعد أن ورث العبيد من والده، اشترى في بداية شبابه 8 أشخاص، وصار العدد يتزايد مع مرور السنوات.
كان يشتري الرجال والنساء، من دون أن يوفر الأطفال حتى، وفي العام 1774، بلغ عدد العمال المستعبدين في مزرعته بـ”ماونت فيرنون” 119 شخصاً. وعند وفاته، كان يعيش في المزرعة 317 عبداً.
استغلّ جورج واشنطن عدداً كبيراً من العبيد طيلة 56 سنة من حياته، قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وخلال فترة توليه الرئاسة، ومن بعدها أيضاً. وقد لاحظ المؤرخون تناقضاً في تعامله مع قضية تجارة الرق في بلاده.
فقد لفتت صحيفة Liberation الفرنسية في هذا الشأن إلى أن جورج واشنطن كان قد طالب- في وصيته- بتحرير العبيد بعد وفاة زوجته، في حين أنه أظهر سلوكاً متناقضاً مع هذا الطلب.
فوفقاً لقانون ولاية بنسيلفانيا، فإن العبد كان يُعتبر حراً بشكلٍ تلقائي في حال بقيَ أكثر من 6 أشهر برفقة “سيّده”. لكن واشنطن تحايل على القانون، وكان يُجبر عبيده على عبور حدود بنسلفانيا، ثم العودة إليها، من أجل إعادة احتساب مدة الإقامة من الصفر.
وتوجد قصتان شهيرتان تفضحان معاملة جورج واشنطن السيئة لعبيده، واحدة قبل توليه الرئاسة، وأخرى من بعدها.
جورج واشنطن وزوجته مارثا كانا يملكان نحو 200 عبد في بداية الثورة الأمريكية، وقد ارتفع العدد مع مرور السنوات حتى أصبح 317 عند وفاته. ووفقاً لموقع The African Americans، فإن واشنطن لم يمنح الحرية في حياته سوى لرجلٍ واحد فقط، وهو “خادمه” الخاص ويليام بيلي.
لكن رجلاً آخر، يُدعى هاري، أصرّ على نيل حريته من “سيّده” جورج واشنطن، وبحسب الموقع ذاته، فإن هذا الإصرار يُلمح بأن واشنطن لم يكن ذلك السيد الطيب الذي يُحسن معاملة عبيده، مثلما أراد البعض تصويره.
اختُطف هاري شاباً من بلده في غرب إفريقيا (غامبيا حالياً)، ونُقل مباشرةً إلى الولايات المتحدة، حيث اشتراه أحدهم في البداية، قبل أن يشتريه جورج واشنطن ويُلحقه بالعمل في مزرعة “ماونت فيرنون”.
من المؤكد أن هاري لم يكن سعيداً في “مونت فيرنون”. فقد هرب للمرة الأولى في العام 1771، لكن أُلقيَ القبض عليه بعد بضعة أسابيع وأُعيد إلى واشنطن، الذي كان قد دفع جنيهاً واحداً و16 شلناً لنشر إعلان البحث عن “ملكتيه”.
لم يفشل هاري في بحثه عن الحرية، فقد أتيحت له فرصة ثانية للهرب في السنوات الأولى للثورة الأمريكية، حين أعلن حاكم مستعمرة فيرجينيا عن وعده بتحرير العبيد المستعدين لحمل السلاح تحت راية التاج البريطاني، لمحاربة الثوار الأمريكيين.
لم يكن جورج واشنطن في “ماونت فيرنون” خلال الثورة الأمريكية، فاستغلّ هاري نداء الحاكم البريطاني لفيرجينيا، وهرب في العام 1776 للالتحاق بالكتيبة المشكلة فقط من الجنود السود والمسماة The Black Pioneers.
ترقى فيما بعد إلى رتبة عريف، وشارك في الهجوم على ولاية كارولينا الجنوبية، وفي حصار تشارلستون عام 1780، الذي شهد انتصاراً كبيراً للقوات البريطانية.
حتى شهر أبريل/نيسان 1781، نجح 18 عبداً في الهروب من مزرعة “مونت فيرون”، وقد تمكن جورج واشنطن من استعادة 7 منهم، ولم يكن هاري من بينهم.
لكنه كان ضمن مجموعة العبيد الذين وفت بريطانيا بوعدها تجاههم، وحررتهم، وأرسلتهم بعد الحرب إلى مقاطعة “نوفا سكوتيا” في كندا، التي كانت لا تزال مستعمرة بريطانية.
وعلى غرار معظم العبيد المُحررين، لم يتأقلم هاري مع حياته الجديدة في “نوفا سكوتيا” بسبب الطقس القاسي والأراضي الصخرية التي مُنحت له لزراعتها. فرحل برفقة زوجته إلى سيراليون في غرب إفريقيا عام 1792، ليعيش في أول مستعمرة من العبيد المُحررين بإفريقيا.
تواصل تمرد هاري على الظلم، فقد شارك سنة 1800 في ثورة ضدّ السلطة البريطانية بسيراليون، بسبب الضرائب المفروضة على المزارعين. فحوكم ونُفيَ إلى مستعمرة أخرى قريبة، حيث عاش بقية حياته حراً حتى وفاته وهو في الـ60 من عمره.