يروي الفيلم الوثائقي الجديد “أبي محمد علي” My Father Muhammad Ali، لتشاد إيه. فيردي وتوم دينوتشي، قصة حياة الملاكم محمد علي كلاي، من خلال عيني ابنه البيولوجي الوحيد، محمد علي الابن. وتدور أحداثه الواقعية في بنسلفانيا وإلينوي وكاليفورنيا، حيث يكافح محمد علي جونيور للعيش بعد رحيل والده وأسطورة الملاكمة المعاصرة عن 74 عاماً عام 2016، إثر إصابته بمرض باركنسون.

حقق محمد علي إنجازات هائلة في مجال الملاكمة، واعتبر واحداً من أعظم الملاكمين في التاريخ، وحافظ على لقب بطل العالم للملاكمة لفترة طويلة. لكنه كان مشهوراً أيضاً بشخصيته القوية والمثيرة للجدل، إذ أرسى نموذجاً استثنائياً في الالتزام السياسي، وتحدث بعلانية عن العنصرية والاضطهاد، ودعم حركات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة وفي أنحاء العالم كافة، وناصر حقوق المجتمع الأميركي الملون، ووقف ضد الحرب على فيتنام.

كان لهذا التحدي الذي قدّمه محمد علي للنظام القائم آنذاك في الولايات المتحدة الأميركية وللنظم الاستعمارية في العالم بأسره تأثير كبير على تشكيل وجهة نظر الناس حول قضايا العدالة الاجتماعية والسياسية في العالم، خصوصاً العربي، فمن المعروف أنه يحظى بتقدير واحترام كبيرين في الشرق الأوسط، ويعتبر مصدر إلهام للكثيرين في المنطقة العربية لما له من مواقف بارزة ومؤثرة في تاريخ الرياضة والسياسة والثقافة العالمية. خلال سنوات نشاطه، تحول الملاكم إلى رمز للحرية والعدالة والمساواة بسبب مواقفه الثابتة والداعمة لحقوق الأقليات والفقراء والمظلومين، وبات واحداً من أكثر الشخصيات محورية في تاريخ العلاقات بين دول الشمال والجنوب، بفعل مواقفه إزاء أحداث الشرق الأوسط وتصريحاته الداعمة للعرب والإسلام.

لتلك الأسباب وأخرى كثيرة، انتظر محبو نجم الملاكمة في شتى أنحاء العالم صدور الفيلم بحماسة بالغة منذ الإعلان عن بدء تصويره، لكن النتائج كانت أبعد ما يكون عن المتوقع، إذ قدم محمد علي الابن صورة مريرة ومؤسفة عن حياته وحياة والده الراحل، في نهج تجاري وضحل مشابه لتلفزيون الواقع الأميركي وليس الوثائقي، كما يزعم صناع الفيلم وشركته المنتجة.

يتمحور الفيلم حول حياة محمد علي الابن الذي يروي قصص نشأته الصعبة واغترابه عن والده النجم المشغول خلال فترة السبعينيات من القرن المنصرم، وعيشه سنوات مراهقته في كنف جديه، بعيداً عن والديه اللذين كانا يجولان العالم حينها. يفتتح الفيلم أحداثه بأحد أكثر المواقف تأثيراً على شخصية محمد علي جونيور وعلاقته مع والده، وذلك حين نسيه والده عند محطة الوقود وهما في طريقهما إلى فندق ترافيل لودج. حادثة يفسرها جونيور بوصفها أولى علامات مرض باركنسون. تضررت صحة محمد علي جونيور النفسية بفعل الإهمال المتراكم، ورافقته صدمة الطفولة إلى يومه هذا، فهو يعيش بلا مأوى ويعاني من إدمان المخدرات، وتحديداً الكوكايين، ويخوض حياة عائلية مضطربة لا يحمي الفيلم خصوصيتها، إذ صور أحد المشاهد المزعجة جونيور وهو يتلقى أوراق الطلاق بشكل محرج أمام الكاميرات. لا يتوانى محمد علي جونيور نفسه عن كشف تفاصيل حياته الشخصية، مصرحاً بأنه يتلقى ألف دولار أميركي شهريًا من تركة والده فقط، وأنه ترك ابنته صالحة لتتربى في دور الرعاية والملاجئ.

يحمل الفيلم عنواناً فرعياً “الحكاية التي لم تُحكَ”. لكنه لا يقدم أي جديد في سيرة محمد علي الشخصية وعلاقته مع أسرته أو صراعاته مع السياسة والحكومات آنذاك، خصوصاً أنه دخل السجن لرفضه الذهاب إلى حرب فيتنام وخاض “معركة القرن”، كما سميت حينها، ضد الملاكم جو فريزر. توقع مشاهدو الفيلم أن تنطوي أحداثه على لقاء تاريخي لعائلة علي، حيث ستكون المرة الأولى التي يجتمع فيها محمد علي الابن في مكان واحد مع والدته خليلة وابنته صالحة وعمه الرحمن علي، وكلهم كانوا شخصيات محورية ومحبوبة في حياة الملاكم الراحل. على الرغم من الوعود المضخمة، لم يقدم أولئك أي معلومات هامة للعامة، بل تعمدت أجوبتهم التهرب والتملص من تقديم الحقائق التي يمكن لها أن تدين أو تبرئ محمد علي من التهم الموجهة إليه عبر الفيلم.

يحاول الفيلم إثقال محتواه الهزيل باللجوء إلى علم النفس، إذ يستعين مخرجا العمل بالطبيبة مونيكا أونيل، وهي أخصائية نفسية متدربة في جامعة هارفارد، قدمت استشارات لعدد من برامج تلفزيون الواقع في الفترة الأخيرة. يقسم المخرج الشاشة ملتقطاً ردود فعل كل من أونيل وجونيور خلال مشاهد التقييم النفسي، محاولاً التشديد على تلك اللحظات الأكثر خصوصية في حياة المرء، لكننا نفاجأ مع نهاية الفيلم ببيان إخلاء مسؤولية يوضح أن علي الابن لم يكن مطلقاً مريضاً لدى الطبيبة مونيكا أونيل، ما زاد من حدة الانتقادات ورجح الغايات التجارية لكل من صناع الفيلم والمشاركين فيه.

يمضي الفيلم بقية دقائقه الثمانين في ترجي عواطف المشاهدين، ويتباكى على إرث محمد علي المشتت والمسلوب، إذ اتجه طاقم التصوير نحو القصر الذي عاشت فيه العائلة قديماً في كاليفورنيا، لكن ملاكه الجدد رفضوا إدخالهم، فاكتفوا بالتسكع خارج أسواره للحظات يسترجع خلالها محمد علي جونيور عادات والده في ممارسة الرياضة الصباحية في الهواء الطلق.

يصل الفيلم إلى أكبر إخفاقاته مع محاولة الترويج لمؤسسة محمد علي الابن غير الربحية لمحاربة التنمر ومساعدة المتنمرين في الدفاع عن أنفسهم بطرق عدة، ومنها الملاكمة. تبدو تلك غاية الفيلم الأهم، إن لم تكن الوحيدة، خلال مدة عرضه، إلى درجة أن المخرجين خصصا وقتاً طويلاً لنقل مؤتمر صحافي لم يحضره أحد، عقده جونيور مع شريكه ريتشارد بلوم في Fighter’s Heaven للحديث عن “مؤسستهما غير الربحية” وأهدافها. تضع تلك المشاهد المثيرة للقلق أسئلة مهمة حول شرعية هذه المؤسسة وحول خطر استخدام اسم محمد علي وسيلة لجمع الأموال لصالحها، وهي شكوك تطاول شركة الإنتاج ذاتها VMI Worldwide التي عرضت الفيلم في صالات أميركية مختارة، وأعلنت أن قصة محمد علي جونيور ستتحول إلى فيلم روائي طويل في خريف عام 2023.

صحيح أن “أبي محمد علي” هو أول الأعمال التي تتطرق إلى الملاكم الأب، لكنه يترأس قائمة طويلة من التجارب السينمائية التي وثقت حياته بشكل مسيء وقاصر، ومنها Muhammad Ali’s Greatest Fight وAli: An American Hero. ركزت تلك الأعمال بشكل أساسي على بعض القضايا المثيرة للجدل في حياة الملاكم، مثل رفضه أداء الخدمة العسكرية والمواقف السياسية أو الدينية التي اتخذها. لا تهين تلك الأعمال ذكرى الراحلين وتنتهك حقوقهم فحسب، لكن حالها حال عديد من أعمال السيرة الذاتية، تتذرع بنقاشات حرية التعبير للدفاع عما اقترفته، وتحمل خطورة تشويه الحقائق وتزويرها، خاصة إذا أنتجها أحد أفراد العائلة أو الأشخاص المقربين الذين يصعب دحض رواياتهم.

سيكون من الصعب تجاهل النتائج العكسية التي أودى إليها فيلم “أبي محمد علي” على كل الأصعدة، حتى مع دفاع صناع الفيلم عن عملهم بوصفه “رحلة شفاء” يخوضها محمد علي الابن لمواجهة ماضيه الشاق، وتأكيدهم على حقه في سرد روايته الشخصية عن والده وبطل الملاكمة الأكثر شهرة وإثارة للجدل حتى بعد موته بسنوات عدة. يأمل جمهور ومحبو محمد علي بالحفاظ على حقوق المتوفين وصيانة خصوصيتهم عبر تشريعات وقوانين مرنة وفعالة، علها تحمي ما لم ينجح أقرب المقربين في حمايته.