لم يكن جالينوس الطبيب اليوناني الأشهر في العصور القديمة عن طريق الصدفة. فقد سيطر اسمه على علم الطب بشكلٍ كامل لأكثر من 1200 سنة، وتأثرت بنظرياته ثقافات مختلفة حتى بداية ظهور الطب الحديث.

وقد أثّر على الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ثم أوروبا في القرون الوسطى، ويُعتبر من رواد الطب التجريبي وعلم التشريح. كما أن تأثيره كان مهماً جداً على صعيد الطب النفسي، فهو أول من آمن بمنهج الحوار مع الشخص الذي يعاني من مشاكل نفسية.

“الأعظم بين جميع الأطباء والفريد من نوعه بين جميع الفلاسفة”؛ هذا ما قاله عنه إمبراطور روما الشهير، ماركوس أوريليوس، وقد يكون ذلك طبيعياً لو علمنا أن جالينوس هو أكثر كاتب وصلت أعماله إلينا من العصور القديمة.

تخيّلوا أن نصف الكتب التي تعود إلى العصور اليونانية، والرومانية، كانت من تأليف جالينوس. والأهم من ذلك أن أعماله كانت منظمة جداً، على عكس معظم مؤلفات العصور القديمة. ولعلّ ذلك سبباً في أن تصبح مرجعاً أساسياً في مجال الطب، على مدى أكثر من ألف سنة.

في العصور القديمة كان الأطباء يتنافسون في الأماكن العامة، بهدف عرض مهاراتهم الطبية. حينها، لفت طبيبٌ شاب -يُدعى جالينوس- الانتباه إليه، بسبب عمليتين قام بهما:

  • الأولى على خنزير، حين ربط عصباً في جسمه جعله يفقد الصوت تماماً.
  • الثانية على قرد، حين استأصل كليته وتحدّى الأطباء بمعالجته. وحين فشلوا في ذلك، نجح هو بذلك.

تأثير جالينوس في الطب شبيه بتأثير أرسطو في الفلسفة، فلطالما اعتُبر مرجعية ضخمة يصعب انتقادها، حتى لو ارتكب أخطاءً طبية كانت قاتلة في بعض الأحيان.

وقبل أن نحدد إنجازاته الطبية ونذكر إخفاقاته أيضاً، من المهم أن نشير إلى أن جالينوس لم يكتشف كل ما ذُكر في كتبه، فمؤلفاته كانت أشبه بموسوعةٍ تضمنت كل ما كُتب من قبله في الطب.

وقد اعتمد أن يذكر في مؤلفاته اسم كلّ طبيبٍ ساهم، بشكلٍ أو بآخر، في عالم الطب. والحق يُقال إن أسماءً كثيرة  في الطب القديم ما كنا لنعرفها لولا جالينوس.

وما ميّزه أن كان يقارن بين أفكار الأطباء الذين سبقوه، وبين التجارب التي يقوم بها بنفسه؛ فلو توصل إلى أن الفكرة صحيحة، كان يستخدمها في كتابه ويعطي الطبيب حقه. ولو لم تكن صحيحة، فقد كان ينتقدها ويوضّح الأسباب.

مؤلفاته كانت موسوعة/ وكيبيديا

درس في الإسكندرية واشتهر في روما 

وُلد كلوديوس جالينوس ما بين عامَي 129 و131 ميلادياً، في مدينة بيرغاموم، التابعة حالياً إلى مقاطعة إزمير التركية. والده “نيكون” عمل مهندساً معمارياً، ما يوحي بأنه نشأ وسط عائلةٍ مثقفة ومشجعة على العلم.

ووفقاً للموسوعة الفرنسية Universalis، فإن جالينوس بدأ دراسته للفلسفة والطب بمسقط رأسه، ثم واصل تعليمه في مدينة الإسكندرية المصرية. قام بعد ذلك برحلةٍ طويلة -استمرت 12 عاماً- جاب خلالها مدناً مختلفة في البحر الأبيض المتوسط، بحثاً عن أفضل الأطباء المعروفين ليتعلّم على أيديهم.

بعد عودته الى بيرغاموم، تم تعيينه طبيباً لفرقة المصارعين (The Gladiators) ما سمح له بتحسين معرفته في علم الجراحة، قبل أن ينتقل للعيش في عاصمة الإمبراطورية الرومانية (روما).

سرعان ما ذاع صيت جالينوس في روما على أنه طبيب مُتمكّن، بسبب عمليات التشريح التي كان يُجريها في الساحات العامة، وبسبب نجاحه في علاج المرضى الأثرياء. والأبرز من ذلك أنه نجح أحياناً كثيرة بعلاج مرضى كانوا يقولون لهم إنهم غير قابلين للشفاء.

وقد أوضحت الموسوعة البريطانية Britanica أن جالينوس أنهى إقامته في روما بشكلٍ مفاجئ عام 166 وعاد إلى بيرغاموم، والأرجح أنه فعل ذلك هرباً من وباء الطاعون الذي كان قد بدأ في التفشي بالمدينة.

وفي العام 168، استدعاه الإمبراطور لوسيوس فيروس والإمبراطور ماركوس أوريليوس -اللذان اشتركا في الحُكم وقتئذٍ- لمرافقتهما في حملةٍ عسكرية بشمال إيطاليا. وبعد وفاة فيروس المفاجئة سنة 169، عاد جالينوس إلى روما حيث عمل طبيباً خاصاً لماركوس أوريليوس وللإمبراطوريين كومودوسو وسيبتيموس سيفيروس.

وبموازاة عمله مع الأباطرة، كان جالينوس يزاول مهنة الطب بشكلٍ روتيني في مدينة روما، وكان يقصده عدداً كبيراً من الطلبة الشغوفين بالعلم والمعرفة، إلى غاية وفاته عن عمر 87 سنة.

رائد الطب التجريبي وعلم التشريح  

يمكن القول إن جالينوس تألق في علم التشريح؛ فبالنسبة إليه، كان التشريح أساس المعرفة الطبية.

فقد عمل على تشريح الحيوانات وإجراء التجارب الطبية عليها، مثل الخنازير والقردة، لكنه كان مُعرضاً للكثير من الأخطاء بسبب المُحرمات الاجتماعية التي منعت تشريح الجثث البشرية، والتي تختلف بدورها عن الجثث الحيوانية التي عمل عليها واستنبط منها نتائجه واكتشافاته.

ومن خلال تشريح الحيوانات، ساهم جالينوس في تحسين المهارات الجراحية وأغراض البحث العلمية. فقد استطاع أن يميّز 7 أزواج من الأعصاب القحفية، ووصف بدقة متناهية صمامات القلب ووظيفتها، كما لاحظ الاختلافات الهيكلية بين الأوردة والشرايين التي تحمل بدورها الدم -وليس الهواء، كما كان يُعتقد من قبل- إضافةً إلى أنه ربط قبالة العصب الحنجري.

وقد أوضح أيضاً أن الدماغ يتحكم في الصوت، وأن سلسلة المقاطع العرضية -المرتبطة بالحبل الشوكي- تتحكم بوظائف الأعصاب في العامود الفقري، كما كان أول من ربط الحالب بعمل الكلى وشرح وظائف المثانة، وغيرها من الأجهزة التناسلية والأعضاء الجسدية الأخرى.

وقد أوضح موقع L’histoire الفرنسي أن جالينوس، وبسبب التشكيك الذي كان يقابله حول مصداقية المنهج التجريبي الذي يعتمده، كان يضطر في كثيرٍ من الأحيان إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات تستمر لأيام حول تجاربه العلمية بحضور مُتخصصين في الطب والفلسفة.

ووفقاً لموسوعة “عريق” العربية، فقد بقي عمل جالينوس في علم التشريح هو المرجع الأساسي للمهتمين بهذا المجال في أوروبا، وذلك حتى منتصف القرن 16، عندما فنّد عالم التشريح الفلمنكي (بلجيكي هولندي) أندرياس فيزاليوس بعض جوانب المعرفة التشريحية لجالينوس.

وقد دحض بعض نظريات جالينوس حول طبيعة الذات الإنساني، وأظهر أن الشخصية البشرية لا ينظّمها القلب، بل الدماغ والجهاز العصبي.

تمثال لجالينوس في مسقط رأسه بمدينة بيرغاموم/ وكيبيديا
تمثال لجالينوس في مسقط رأسه بمدينة بيرغاموم/ وكيبيديا

إسهام أساسي في الطب النفسي

كان لجالينوس إسهاماً أساسياً ومهماً جداً في الطب النفسي، من خلال رسالةٍ شهيرة كتبها بعنوان “علاج شغف الروح”، والتي تحدث فيها عن الأسلوب الأنسب للتعامل مع المشكلات النفسية وعلاجها.

وقد كان أول من اقتنع وروّج لمنهج الحوار مع المريض النفسي، أو الشخص الذي يواجه مشكلات نفسية، وتقديم النصيحة له بناءً على ذلك. وكان ذلك بمثابة ثورة في التفكير، نسبةً إلى الزمن الذي كان يعيش فيه.

ففي ذلك الوقت، كان يتمّ التعامل مع المشكلات النفسية على أنها أمراض غريبة وأسبابها خارقة، قد يُصاب بها الإنسان بسبب الأشباح والجن وما إلى ذلك.

فيلسوف اعتمد على “نظرية البرهان” 

لم يبرع جالينوس في العلوم الطبية فقط، بل كان أيضاً فيلسوفاً متميزاً، تقوم فلسفته على “نظرية البرهان”، التي تقبع خلفها تفسيرات العالم الطبيعي التي تُمكن الفرد من التمييز بين الحجج الآمنة والاحتمالية أو الخاطئة، وتضمن مصداقية الافتراضات التي يتوصل إليها من خلال التطبيق الصحيح.

أما عن فلسفته الطبية فهي تعتمد نظرية شاملة لدفع المسببات المرضية له، وبالتالي فإنّ منهجيته قريبة إلى التجريب النقدي “الأرسطي”، القائم على المراقبة الدقيقة والنظرية المنطقية الشمولية التي تجعل ملاحظاته ذات مغزى.

ألّف جالينوس مجموعة كبيرة جداً من الكتب، لعلّ أبرزها “كتاب التشريح الكبير”، الذي يعتبر من أهم مؤلفاته في علم التشريح وبقيَ مرجعاً أساسياً في هذا المجال لأكثر من ألف سنة.

كما اشتُهر “كتاب فرق الطب”، الذي يصف فيه ما يقوله فريق من أصحاب التجربة في الطب، وفريق من أصحاب القياس، وفريق آخر من أصحاب الحيَل محاولين إثبات ما يدعونه، مضيفاً الاحتجاج لكل فريق، وردّه على من خالفه، وكيفية الحكم على الحق والباطل بينهم.

ويوجد كتاب مهم آخر، أهداه جالينوس لصديقه طوسون، عنوانه “كتاب النبض للمتعلمين”، شرح فيه أساسيات علم النبض، موضحاً أصناف النبض، وذاكراً حقيقة هامة تفيد أن العروق والقلب تنبض كلها على مثال واحد، ولكن هناك عروقاً يسهل جس نبضها، مقارنة بالأخرى.

وكان لعلم جالينوس أثر كبير على الحضارة الإسلامية بحيث ترجمت الكثير من كتبه إلى اللغة العربية، وقد لقبّه أبو بكر الرازي بـ ثَانِي الفَاضِلَيْن”، بعد أبقراط.

أطروحة جالينوس عن النبض باليونانية/ وكيبيديا
أطروحة جالينوس عن النبض باليونانية/ وكيبيديا

الطب الحديث دحض نظرية جالينوس

وفقاً لموقع مفكرون، فإن من أبرز إسهامات جالينوس في مجال الطب هي ابتكاره نظرية “الأخلاط الأربعة والروح الطبيعية”، وكانت تثبيتاً للنظرية القديمة التي وضعها الطبيب اليوناني الذي سبقه أبقراط.

جالينوس، بعد أبقراط، تبنى الفكرة التي تقول إن جسم الإنسان يحتوي على 4 أخلاط -أو سوائل- هي: الدم، والبلغم، والعصارة الصفراء، والعصارة السوداء. ووفقاً له، فإن توازن نسب هذه السوائل في الجسم هو ما يحافظ على صحته، وأن زيادة أو نقص أي نسبة من الأربعة تسبب الأمراض.

الطب الحديث أثبت أن المرض، أي مرض، غير مرتبط بتاتاً بما يُسمّى “الأخلاط الأربعة”  وأن نظرية جالينوس كانت خاطئة، لا سيما أن أنواع الأمراض مختلفة كثيراً باختلاف أعضاء الجسم ووظائفها.

كما أن الطب الحديث أثبت خطأ نظريته التي تقوم على أن الدم الداكن يُصنع في الأساس داخل الكبد، حتى يتغذى الجسم عليه، وأن الدم الشرياني (الفاتح) يصنعه القلب؛ وهذا ما يمدّ الجسم بالطاقة الحيوية.