القول بأن التلفزيون لم يعد المنصة الأُولى للإعلام المرئي، وأن وسائل التواصل الاجتماعي ــ وفي مقدمتها منصات مثل “يوتيوب” و”إنستغرام” ــ هي ما حل محل الإعلام المرئي التقليدي، بات بديهيا منذ أكثر من عقد. وفي الوقت الذي يعد فيه شهر الصيام فرصة لبث الأنشطة الفنية على “الشاشة الصغيرة”، يشكل العمل على محتوى ثقافي جدي تحديا للقائمين عليه. ومن هنا، فإن شاشات الهواتف والحواسيب صارت الأنسب والأقرب إلى العديد من صانعي المحتوى الثقافي، ولا سيما الشباب منهم.

“30 مروية”، هو عنوان البرنامج الذي يقدمه الباحث في التاريخ اللبناني شارل الحايك عبر حسابات “مؤسسة الفكر العربي” وصفحات “تراث وجذور” (Heritage and Roots) على وسائل التواصل الاجتماعي. انطلقت أُولى حلقات البرنامج في الأول من رمضان الجاري (الثالث والعشرين من آذار/ مارس الماضي)، وينتظر أن تستمر حتى نهايته.

تميز “المرويات” بقصرها النسبي، على طريقة التلخيصات البصرية التي درج على تقديمها مبسطو العلوم عبر منصة مثل “يوتيوب”؛ إذ لا يتجاوز طول الحلقة الواحدة منها أربع دقائق، وأحيانا أقل من ذلك. إلا أن هذه المادة، على إيجازها، تبقى محتفظة بعناصر تثقيفية أساسية. ليست هذه تجربة الحايك الأولى في تقديم المحتوى؛ حيث يشار إلى أن الباحث قد حقق تفاعلا ملحوظا خلال السنوات الأخيرة، قلما يتوافر عند المشتغلين في حقل مثل التاريخ قد يراه البعض “جافا”.

ومن ناحية بصرية، لو قارنا “30 مروية” ببرامج أخرى تحاول تقديم مادة علمية ورشيقة عبر منصات التواصل، سيبدو مشروع الحايك خاليا من العناصر الفرجوية المساعدة، ومن المؤثرات التي عادة ما يستعين بها مقدمو المحتوى على الإنترنت، غير أن ذلك لا يقلل من جاذبية الصورة بشكل عام.

ويمكن رد ذلك إلى الأسلوب الحيوي الذي يميز اشتغال الباحث اللبناني، من جهة، وإلى عرضه مواضيع متنوّعة بمقاربة موضوعية من جهة ثانية، إذ يتنقل بين الحقب التاريخية التي شهدها لبنان، موليا فترة الحكم العثماني درسا واهتماما واسعين، بعيدا عن السرديات التقليدية، بل مفككا إياها على الأغلب؛ إذ يعتبر نفسه من تلامذة مؤرخين مثل الراحلين كمال الصليبي وعبد الرحيم أبو حسين، اللذين اشتهرا بالأطروحات والتآليف البعيدة عن مقولة “لبنان الملجأ” (المنعزل)، لصالح قراءة أخرى تضع هذا البلد في إطار أكثر تفاعلا مع محيطه التاريخي والجغرافي.

تشمل المرويات الثلاثون جغرافيات عربية لم يسبق للحايك أن تطرق لها في اشتغالاته السابقة، مثل حلقة “جبل مرّة” في إقليم كردفان السوداني، والتي تناول فيها الإرث الثقافي المديد لهذه المنطقة، وكذلك الحلقة التي افتتح بها هذا الموسم، “تراث الطهي العربي”؛ حيث أشار إلى أهم التصانيف التراثية العربية التي كان الطعام موضوعا لها؛ مثل “كتاب الطبيخ” لابن سيار الوراق، والذي عاش في أواخر القرن الثالث الهجري.

يلاحظ المشاهد أن معد البرنامج ومقدمه يحاول التنويع في الأزمنة التي يتناولها؛ فلا يتوقف عند التاريخ القريب، بل ينظر إلى ما هو أبعد، مثل التاريخ الروماني، كما في مروية عنونها “لبدة العظمى”، والتي كان موضوعها المدينة الليبية القديمة. وإلى جانب العناوين السابقة، تناول الحايك في مروياته أيضا: “كنيسة المهد”، و”الثورة الزراعية العباسية”، و”مدينة العلا”، و”الصقارة”، و”قصر بيت الدين”، و”مرقد الإمام علي”، و”مئذنة وجامع القيروان”، وغيرها.