قبل نحو 200 سنة، ورغم كل الصعوبات التي عرفها وصادفها، استطاع لويس برايل أن يُثبت نفسه كواحدٍ من أبرز الشخصيات على مرّ العصور، بعدما طوّر نظاماً جديداً يسمح للمكفوفين أن يقرأوا ويكتبوا. فكان، وما زال، له دورٌ بارز في حياة كثيرين.
بدأت القصة بعدما انضمّ الطفل برايل إلى المعهد الملكي للمكفوفين في العاصمة الفرنسية باريس، ليُكمل تعليمه. فطوّر طريقة جديدة تمكّن المكفوفين من الكتابة والقراءة، لا تزال تُسمّى حتى الآن باسمه “طريقة برايل”.
فقدَ بصره في ورشة والده
وُلد لويس برايل يوم 4 يناير/كانون الثاني 1809 في بلدة كوبفراي الفرنسية، على بعد 40 كلم عن العاصمة باريس، ونشأ وسط عائلة صغيرة وميسورة الحال، وله 3 أشقاء يكبرونه سناً.
كان والد برايل صانع سروج الخيل في الأساس، ويملك ورشة صغيرة يصنع فيها أيضاً الأحزمة والحقائب الجلدية، كانت المكان المفضّل للطفل الأصغر الذي كان يقضي وقته فيه بمراقبة عمل والده.
وكأي طفلٍ بعمره، كان يقلّد والده ويلعب بمختلف الأدوات التي يجدها أمامه في الورشة، إلى أن حاول ذات مرة إنشاء ثقبٍ في أحد الأحزمة بواسطة أداةً حادة تسببت له بإصابةٍ خطرة في عينه.
كان في الثالثة من عمره حينها؛ ونظراً لعدم وجود مستشفيات مجاورة وقتئذٍ، أُصيبت العين بالتهابٍ حاد وانتقلت العدوى إلى العين الثانية، قبل أن يفقد لويس برايل بصره نهائياً بعد سنتين حين أصبح في الخامسة.
ورغم ذلك، فقد أصرّ والداه على تلقيه التعليم الابتدائي في مدرسة القرية، رفقة الأطفال العاديين.
ووفقاً لموقع Allo Docteurs الفرنسي، فإن برايل كان تلميذاً نجيباً في مدرسة القرية، وقد سعى والداه لمساعدته أكثر وأكثر عن طريق التعلم من المنزل. فوجد والده وسيلة ذكية لتشجيعه على القراءة، عندما صنع من بعض المسامير أشكال حروف الأبجدية، تسمح لابنه بالتعرف إليها عن طريق اللمس.
لكن حياة برايل انقلبت رأساً على عقب حين توسّط كاهن الرعية في قريته لدخوله المعهد الملكي للمكفوفين في العاصمة الفرنسية، باريس.
التحاقه بالمعهد الملكي للمكفوفين استفادت منه البشرية
دخل لويس برايل المعهد الملكي للمكفوفين في سنّ العاشرة، وكان ذلك المعهد قد أُنشئ لتلقين المكفوفين حرفة، تساعدهم على الاندماج في المجتمع. وفيه طوّر برايل طريقة جديدة للقراءة والكتابة.
الطريقة تشبه قليلاً تلك التي علّمه إياها والده، وهي الطريقة نفسها التي ابتكرها أستاذ اللغات والمترجم الفرنسي فالنتين هواي في أواخر القرن 18، وتتمثل في تنضيد الحروف النافرة المنقوشة على ورق مُقوى، يتعرّف إليها فاقد البصر بواسطة اللمس.
وعندما بلغ لويس برايل عامه الثاني عشر، حضر عرضاً ساهم بشكلٍ كبيرٍ في اختراع لغة المكفوفين، التي باتت تُسمّى بـ”لغة برايل”.
العرض كان تجريبياً وقد قدّمه عسكري متقاعد يُدعى تشارلز باربييه، بعنوان “الكتابة الليلية” أو “الكتابة الصوتية”. وتضمّن العرض طريقة جديدة في الكتابة تتكون من 12 نقطة بارزة، تجعل من الممكن نسخ الكلمات صوتياً.
كان شارل باربييه ابتكر تلك الكتابة الصوتية لأغراضٍ عسكرية. وذكرت بعض المراجع أن نابليون بونابرت طلب منه ذلك، لمساعدة القادة على التواصل مع الجنود ليلاً من دون إشعال الشموع، تفادياً لمراقبة العدو.
ولكن موقع “متحف لويس برايل“ الرسمي لم يُشر أبداً إلى اسم نابليون عند تطرّقه لقصة ابتكار تلك اللغة، موضحاً أن باربييه انضمّ إلى الجيش الفرنسي في العام 1784 وترقَّى في مختلف الرتب إلى أن أصبح قائد سلاح المدفعية، قبل أن يهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1792.
في مطلع القرن 19، عاد إلى فرنسا وركز اهتمامه على إيجاد طريقة لتشفير وقراءة التعليمات من خلال اللمس. فنشر، منذ العام 1808 عدة منشورات قدّم من خلالها عدة طرق للكتابة.
ومن بين تلك الطرق، كانت “الكتابة الليلية” أو “الكتابة الصوتية” التي اقترحها في العام 1821 على مدير المعهد الملكي للمكفوفين؛ حيث كان يتعلّم لويس برايل الذي أُبهر على الفور بعرض باربييه.
اقتنع برايل بأهمية النقاط البارزة التي اعتمدها باربييه، وهو نظام أثبت أنه أسهل من الكتابة البارزة المُستخدمة حتى ذلك الحين، التي اخترعها فالنتين هاوي، والمعروفة باسم “الكتابة السوداء”، أي الكتابة المطبوعة.
ولكن طريقة كتابة تشارلز باربييه، ورغم كونها “عبقرية”، إلا أنها لم تتضمن التهجئة والقواعد النحوية وعلامات الترقيم، كما كانت خالية أيضاً من الأرقام؛ ما جعل لويس برايل يرفض مبدأ “الكتابة الصوتية”، الذي لا يحترم أياً من قواعد اللغة الفرنسية، وقرر أن يجتهد في تطوير كتابة باربييه.
فكّر في كل شيء.. حتى الموسيقى
ولأنه اعتبر أن نظام الكتابة الصوتية لتشارلز باربييه لا يمنح للمكفوفين مجالاً واسعاً لاكتساب العلم والمعرفة، خصّص برايل حيزاً كبيراً من وقته لتطوير تلك الطريقة في الكتابة والقراءة.
وفي العام 1827، حين بلغ العام 18، عرض طريقته الجديدة في الكتابة والقراءة رسمياً أمام إدارة المعهد. وقد تضمنت طريقته في الكتابة 6 نقاط فقط، بدل 12، ويتمّ التعرف من خلالها على الحروف وعلامات الترقيم وحتى الأرقام.
ولأن لويس برايل كان من عشاق الموسيقى وبارعاً في عزف البيانو، فقد طوّر في العام التالي ابتكاره الجديد في الكتابة، بإضافة السلّم الموسيقي.
رفض المعهد في البداية طريقة برايل واعتبرها غير مجدية، كما لم يلقَ آذاناً صاغية من إحدى دور النشر العريقة لنشر كتابٍ عن طريقته، حتى إنه ترجم كتاباً للشاعر البريطاني جون ميلتون من الإنجليزية إلى طريقة برايل.
وتُشير بعض المراجع إلى أنه استخدم في هذه الترجمة الدبوس نفسه الذي أصاب عينه في ورشة أبيه وأفقده البصر. ولكن رغم كلّ ذلك، لم يلقَ لويس برايل أي دعمٍ من المعهد. فقرّر، بمساندة والده، أن يعلّم طريقته بنفسه إلى زملائه التلاميذ في الأول.
وهذا ما حصل بالفعل، وساهم في انتشار طريقة برايل بسرعةٍ فائقة وسط الطلاب والأساتذة، لا سيما أنه كان في الوقت نفسه قد عمِلَ على تطوير طريقة للكتابة -وليس القراءة فقط.
وأوضح موقع Ligue Braille الفرنسي أن لويس برايل عرض نسخة نهائية لابتكاره في العام 1837، وهي السنة نفسها التي شهدت نشر أول كتابٍ مطبوع على طريقة “برايل”، والذي طُبع في ورشة المعهد الملكي للشبان المكفوفين.
قضى لويس برايل معظم حياته داخل أسوار المعهد الملكي للمكفوفين، طالباً ومُدرساً وباحثاً، حتى وفاته في العام 1852، بعد معاناته مع مرض السلّ الذي أصابه في العام 1835، والذي أثّر كثيراً على صحته إلى درجة اكتفائه- بداية من سنة 1840- بتقديم دروس الموسيقى فقط، بعدما كان من قبل يُدرّس اللغة والجبر.
دُفن لويس برايل بمدافن العائلة في مسقط رأسه كوبفراي، في كانون الثاني/يناير 1852، قبل أن يتم نقل رفاته إلى مقبرة العظماء “بانثيون” بباريس.