“بعد ألف عام، ألف حرب، سوف يعثرون في الريح على صوتي الذي لم ينصت إليه أحد يوم صرخت: وحده الحب منقذ العالم”.. هكذا تعود كلمات الشاعر اللبناني زاهي وهبي لتؤكد في ديوانه الجديد (ليل يديها) أن وحده الحب هو القادر على مواجهة الحرب.
يتألف الديوان من مئتي صفحة من القطع الوسط تتوزع عليها قصائد تتنوع من القصيرة جدا التي تكثف المعنى وتختزله في كلمات قليلة مثل “تائه حين غيابك مثل نهر أضاع ضفتيه” أو “تحضرين، يدمعُ الوقتُ فرحا، يذرفُ ثوانيه دفعة واحدة” إلى القصائد الطويلة التي يعرض وهبي من خلالها ذاته ورؤيته للعالم وموقفه حيال كثير من القضايا والتجارب التي مر بها.
في مستهل الكتاب نقرأ مثلا قصيدة بعنوان (العودة) التي سرعان ما يتضح للقارئ أن وهبي كتبها من وحي معاناته مع فيروس كورونا واللحظات الحرجة التي عاشها في المستشفى “عائدا من موتي، أضخ الحياة في عروق الحياة، أرش الأرض قمحا وأغنيات، أَشْرَعُ الصدرَ محراب صلاة، أقول للموت تأخّر، في القلب متّسع للحبّ، في الرئتين هوى لا هواء. للأصدقاء مهلا، لا وقت للدمع، لا وقت للبكاء، فكرةٌ عابرةٌ هذه الحياة”.
وفي قراءة للكتاب من عنوانه، يتبين أن زاهي وهبي لا يزال أمينا لموضوعه الأثير: الحب والعلاقة الإنسانية مع المرأة التي يرفعها في قصائده إلى المراتب السامية ويرى فيها الصفات الأقرب للحياة والأكثر شبها بها.
في صفحة الاستهلال أو الإهداء يكتب وهبي “لامرأة تغفو في مخيلتي، وتصحو كالحدائق، لامرأة تنام على أشواقها، وأنفاسها وسائد، لامرأة تقرأ (هذي) الكلمات تصير بين يديها قصائد”، فكأن اللغة وبيانها وبدايتها عنده لا تصير شعرا ما لم تقرأها امرأة.
يستطرد: “كنتُ أغنيةً، كنتِ الغناء. كنتُ حيا، كنتِ الحياة”.. فامرأة زاهي هنا هي الحياة نفسها، سواء أكانت أما أو حبيبة، زوجة أو ابنة، صديقة أو مناضلة. أيّاً كانت يسبغ عليها من سمات الحياة نفسها ومن مقدرة هذه الحياة على التجدد والإبداع والعطاء.
ومن الصوفي الممتزج بالحسي إلى الصوفي الخالص نقرأ “أنا الصوفي الأخير، أدورُ حولي، أتلاشى فِيَّ، أغيب. لا مَن يراني، لا مَن أراه، وحدي أناجي وحدي، والوجوه غبار”.
وينتقل وهبي في كتابه إلى مناجاة الخالق في فصل يحمل عنوان (إلهي) وفيه ما يشبه الابتهالات أو الومضات الروحانية كما في نصه الذي لحنته ورنمته اللبنانية ليال نعمة “إلهي بِلا سؤالٍ أعطيتَ الحياة، إلهي أَعْطِ السائلين بلا صوت، الحائرين بلا ملاذ، الباحثين عن قارب نجاة، المضيئين عتمة ليلهم بالصلوات”.
في عبارة مختزلة ومكثفة المعنى يقول “كانوا يتسابقون نحو الجنّة، وكنتُ مسرِعا نحو الله”. ويقول “لا نرى الله، ليس لأنه في عتمة، بل لأنه نورٌ على نور، الضوء الباهر لا يُرى بالبصر بل بالبصيرة، افتحْ قلبك تَرَ الله”.
زاهي وهبي الذي كتب سابقا لبيروت ودمشق والقاهرة ومدن عربية أحبها، يكتب في جديده لبغداد القصيدة التي لحنها المصري حازم شاهين وغنتها السورية فايا يونان، كما يكتب لتونس وعمّان، دون أن ينسى فلسطين التي لا تغيب أبدا عن نصوصه. ففي قصيدة بعنوان (الكرمل) يقول “أيها الكرمل القريب، لا تزال أصوات أنبيائك مسموعة، وحفيف الأبدية فيك ناعما كأول الخريف، ما نزال على شرفة الجليل، ننتظر ملائكة نجدة وقيامة عاجلة”.
وعن بغداد يكتب: “بغداد، بين النهرين كتبها الله قصيدة، بين الشفتين تعويذة عذراء، بين العينين خرزة زرقاء، بين الضلعين صلاة أُمّ سجدَت شاكرة، وقامت شهيدة”.
ومن واقع الحال الذي تعيشه بدان عربية وغير عربية يكتب وهبي تحت عنوان (لم يبقَ لي) قصيدة لحنتها وغنتها السورية ميس حرب “لم يبقَ لي من بلادي سوى يديك، وصلاةٍ أحفظُها غيبا، لم يبقَ لي سوى الأغنيات التي سمعناها معا، والمدى الشاسعِ في عينيك، والسماء التي ما استطاعوا أن يسرقوها، والدعاء الذي ردّدتُهُ صغيرا، والبكاء الذي عاندتُهُ طويلا، لم يبقَ لي من بلادي سوى عطرِ الترابِ العالق في راحتَيْك”.
الكتاب صادر عن دار الرافدين، وهو الديوان الشعري الثاني عشر لزاهي وهبي الذي أصدر أيضا عدة كتب نثرية.