رحلة محفوفة بالمخاطر خاضتها سفينة مصرية عبر رأس الرجاء الصالح إبان الحرب العالمية الثانية للهرب من مناطق الصراع، لكن التاريخ لم يذكر الكثير عن مصير ركابها والطاقم.. إلى أن جاء المذيع والكاتب أحمد خير الدين بعد عقود ليوثق هذه المغامرة في كتاب (على بلد المحبوب.. رحلة زمزم الأخيرة).
الكتاب تصنيفه بحسب دار الشروق في القاهرة “تاريخ/صحافة استقصائية”، ويأتي في 212 صفحة من القطع المتوسط مع ملحق صور 24 صفحة. وهو الكتاب الثالث في رصيد مؤلفه الذي وصل مؤخرا للقائمة الطويلة بجائزة الشيخ زايد للكتاب في الإمارات فرع المؤلف الشاب.
في البداية يسرد الكاتب كيف أن الصدفة وحدها قادته لاكتشاف واقعة إغراق الألمان للسفينة زمزم وانقطاع أخبارها عام 1941، وذلك في أثناء بحثه في موضوع آخر بمكتبة الكونجرس الأمريكي، ليتحول كامل اهتمامه إلى معرفة ما جرى للطاقم المصري والركاب الذين حمل معظمهم الجنسية الأمريكية.
ومن خبر صغير منشور في مجلة روز اليوسف عن عودة مجموعة من البحارة المصريين بعد أربع سنوات من الأسر في ألمانيا، تنطلق رحلة بحثية دؤوب بين السجلات الوطنية لعدد من الدول ولقاءات مع ناجين كانوا أطفالا وقت الحادث، مع الاستعانة بمراجع عربية وأجنبية ومقتطفات من أعمال أدبية تناولت حقبة الحرب.
وبعد التقاط طرف الخيط، يقدم الكاتب نبذة صغيرة عن تاريخ السفينة التي اشتراها رجل الاقتصاد المصري طلعت حرب من شركة بريطانية للنقل البحري لتكون نواة أسطول وطني للنقل البحري وأطلق عليها اسم (زمزم) قبل أن يتبدد هذا الحلم بسبب الحرب وتنتقل ملكية السفينة إلى شركة الإسكندرية للملاحة البحرية التي امتلك الإنجليز غالبية أسهمها آنذاك.
في ديسمبر كانون الأول 1940 انطلقت رحلة زمزم الأخيرة من ميناء الإسكندرية ومنه إلى ميناء بورسعيد مرورا بميناء كيب تاون في جنوب أفريقيا وميناء برنامبوكو في البرازيل حتى وصلت سالمة إلى نيويورك.
وفي الولايات المتحدة، تنشر مجلة نيويورك تايمز في عددها الصادر في فبراير شباط 1941 مقابلة أجرتها مع قبطان زمزم الإنجليزي وليم جراي سميث تحدث فيها عن مسيرته المهنية وسعادته بنقل عشرات الأمريكيين في هذه الرحلة الطويلة، كما يدلي ببعض المعلومات عن حجم السفينة وحمولتها مع ذكر عابر لمعلومة مهمة سينساها الجميع حين يتردد اسم زمزم وسيرتها بعد أشهر قليلة.
“طوال الرحلة أعتمت غرفها، وأغلقت كل أضوائها مثلما فعلت (السفينة) النيل قبلها، لكنها أغلقت أيضا جهازها اللاسلكي”، وبرر تلك الإجراءات بقوله “مصر ليست في الحرب لكنها حليفة غير محاربة لبلادي”.
وفي العشرين من مارس آذار 1941 تحركت زمزم من ميناء هوبوكين في طريق العودة، لكنها لم تصل أبدا إلى وجهتها إذ اعترضتها البارجة الألمانية أتلانتس في مياه المحيط الأطلسي وقصفتها حتى أعطبتها ثم أسرت جميع ركابها قبل أن تغرقها تماما بالقنابل في أبريل نيسان.
يستقر حطام زمزم في قاع المحيط لكن ركابها يتحولون إلى أسرى لدى الألمان الذين وجدوا أنفسهم في مأزق بعدما كانوا يعتقدون أنهم ظفروا بصيد ثمين لاعتقادهم أن زمزم ناقلة جنود بريطانية متخفية، ويتعقد الموقف لكلا الطرفين.
بالنسبة للألمان كانت المشكلة في وجود عدد كبير من الأمريكيين بين الأسرى في وقت لم تكن الولايات المتحدة قد أعلنت دخولها الحرب بشكل مباشر، لذلك حاولوا الخروج من المأزق بإنزال المسافرين الأمريكيين في فرنسا المحتلة آنذاك تمهيدا لإعادتهم إلى بلدهم مع نقل البريطانيين والكنديين والمصريين إلى معسكرات الاعتقال.
ويصف الكتاب مأساة الأسرى في معسكرات النازي من واقع المقابلات التي أجريت مع بعض العائدين على دفعتين بعد أربع سنوات من الحادث وذكريات الفارين من قبضة الألمان ومنهم الطالب بحري (جمال الدين عمر منجد) ابن الممثلة الشهيرة علوية جميل.
الكتاب يحتوي على جهد بحثي شاق عابر للحدود والقارات، لكن مما يميزه أيضا التجارب والقصص الإنسانية الفريدة للمسافرين وطاقم السفينة، سواء وهم معا أو بعد افتراقهم عند الأسر. كما قدم بانوراما حية للمشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر والعالم إبان الحرب ورَبَط بشكل سلس وشيق بين ما كان يجري على الأرض من صراعات وقتال وما حدث على سطح السفينة المنكوبة.
لم يقتصر جهد الكاتب على سرد الوقائع التاريخية، فعمل على تحليل وتفسير غياب حادث إغراق زمزم عن الذاكرة لعقود من الزمن قائلا إن الرقابة التي فرضها الإنجليز على المطبوعات في مصر وقت الحرب العالمية الثانية والأحداث الداخلية المتسارعة آنذاك من أبرز الأسباب.