ناشي واحدة من قوميات الصين الست والخمسين، يعيش معظم أبنائها في مدينة ليجيانغ بشمال غربي مقاطعة يوننان. ومدينة ليجيانغ مدرجة على قائمة التراث الثقافي العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بفضل ملامحها الجذابة البسيطة وتاريخها العريق وثقافتها الرائعة ونظام إمداد المياه القديم بها.
المهارة في استخدام الموارد
تتمتع ليجيانغ بموارد مائية غنية ومناخ معتدل وحقول شاسعة. كان أسلاف قومية ناشي يتنقلون وراء الماء والكلأ في عصر البداوة، وحافظ أبناؤها على أسلوب حياتهم التقليدية حتى بعد أن استقروا في ليجيانغ في فترة الزراعة.
أنشأت قومية ناشي ثقافة “الآبار الثلاث” الفريدة منذ بداية استيطانها في المدن والبلدات. تتكون مدينة ليجيانغ القديمة من ثلاثة أجزاء؛ مدينة دايان القديمة وبلدة شوخه القديمة وبلدة بايشا القديمة. يمكن رؤية “الآبار الثلاث” في كل مكان في بلدة شوخه القديمة. المياه من البئر الأولى هي مياه نظيفة صالحة للشرب، ثم تفيض المياه من البئر الأولى وتتدفق إلى البئر الثانية ليستخدمها أهل البلدة في غسل الخضراوات وأدوات الطهي. وبعد ذلك تتدفق المياه إلى البئر الثالثة لاستخدامها في غسل الملابس، حتى تدخل المياه إلى مزاريب الصرف أخيرا لري المحاصيل الزراعية. الآبار الثلاث المستقلة والمترابطة بشكل وثيق في نفس الوقت، لا تفيض بالخصائص المميزة لقومية ناشي فحسب، وإنما أيضا هي مرافق علمية وصحية ومعقولة وسهلة، تجسد مهارة أبناء قومية ناشي ليجيانغ في استخدام الموارد.
اعتاد أبناء قومية ناشي، سواء النسوة المسنات أو الفتيات العصريات، على الغسل بمياه الآبار. ولكن لا أحد يذهب إلى البئر الأولى لغسل الخضراوات، حتى بعد أن زودت المنازل بماء الصنبور منذ سنوات عديدة، ولم تعد ثمة حاجة للذهاب لجلب المياه من الآبار لاستخدامها في الطهي وإعداد المشروبات، فقد حُفرت العادات المحلية بعمق في قلوب أبناء قومية ناشي على مرور السنين حتى امتزجت بدمائهم.
طريق “تشاما” القديم بين الماضي والحاضر
تُعرف بلدة شوخه القديمة بأنها أكثر محطات طريق “تشاما” (الشاي والخيل) القديم اكتمالا وحفظا في مدينة ليجيانغ، وهي “قرية الأساكفة” المشهورة في المنطقة الحدودية بين يوننان وسيتشوان والتبت، وتنتج الأحذية الجلدية والمصنوعات الجلدية وخيوط الكتان والأدوات الحديدية وأشغال الخيزران، إلخ، منذ العصور القديمة. وانتشرت آثار أقدام الحرفيين في كل ركن من أركان طريق “تشاما” القديم. وقد أدت حركة النقل عبر طريق “تشاما” القديم منذ فترة أسرة تانغ (618- 907) إلى زيادة الطلب على السلع المختلفة على طول الطريق. وفي فترة أسرة مينغ (1368- 1644)، دعا زعيم عشيرة مو مجموعة من الحرفيين من منطقة جنوب نهر اليانغتسي للاستقرار في شوخه. ومنذ ذلك الحين، تطور هؤلاء الحرفيون المهرة في هضبة يونقوي (يوننان-قويتشو)، وفتحوا العديد من دكاكين الجلود في شوخه.
ومدينة دايان القديمة لقومية ناشي، التي يرجع تاريخها إلى ثمانيمائة سنة، كانت أيضا مكانا تجاريا مزدهرا، وهي صورة مصغرة لتحول أبناء قومية ناشي من حياة البداوة إلى حياة الاستقرار والزراعة، وانتقالهم من الريف إلى المدينة.
يقع قصر عشيرة مو في قلب مدينة دايان القديمة. عندما يتحدث أبناء قومية ناشي عن “السيد مو”، تفيض نبرات أصواتهم بالفخر والألفة والاحترام. كان قصر عشيرة مو في الماضي أعلى سلطة في مدينة ليجيانغ القديمة، ومقر إقامة الوزير المعاون للإمبراطور الذي أمرت ببنائه الحكومة المركزية، ودار الوالي المسؤول عن حفظ الاستقرار في المناطق الحدودية. لقد حكم قصر عشيرة مو المناطق الحدودية وحافظ على استقرارها لمدة أربعمائة سنة. في عام 1996 أعيد بناء القصر بقرض من البنك الدولي. البوابة الأولى لقصر عشيرة مو هي بوابة الممر الذي كان يمر به طريق “تشاما” خلال فترة أسرتي مينغ وتشينغ (1644- 1911). كُتبت على البوابة الخشبية التي تم ترميمها عبارة “تساقط الأمطار لتغذية كل المخلوقات في الدنيا” باللغة الصينية، وهي عبارة متجانسة مع عبارة “اطلبوا العلم” بلغة قومية ناشي من حيث النطق، مما يعكس احترام أبناء قومية ناشي للمعرفة والتعليم. وفي القصر مكتبة تحمل اسم “وانجيوان” (عشرة آلاف كتاب) وتحفظ عددا كبيرا من الوثائق الثمينة مثل ((كتاب دونغبا المقدس)) و((الكتاب البوذي المقدس)).
بالمقارنة مع مدينة دايان القديمة وبلدة شوخه القديمة، اللتين تتمتعان بأجواء تجارية كثيفة، فإن بلدة بايشا القديمة تشعرك باللطف، وتعبق بالرائحة العطرة للنبيذ والشاي، وتفوح فيها الأجواء الثقافية. تُفتتح متاجرها في تؤدة، من دون صخب. المتاجر الأكثر نشاطا هي دكاكين الخضراوات والفاكهة التي تخدم السكان، وفي بعض الأحيان يشتري الزوار الخضراوات واللحوم والبيض أيضا، بنفس الأسعار التي يدفعها السكان المحليون.
بلدة بايشا القديمة هي الموطن الأصلي لأبناء قومية ناشي في مدينة ليجيانغ، وهي منشأ ثقافة قومية ناشي وزعيم عشيرة مو. قبل فترة أسرتي سونغ (960- 1279) ويوان (1206- 1368)، كانت أيضا المركز السياسي والاقتصادي والثقافي لمدينة ليجيانغ.
ثقافة دونغبا
الجدران ذات اللون الترابي في شوارع بلدة بايشا القديمة مليئة بكتابات دونغبا، التي ظهرت قبل النقوش على العظام أو دروع السلاحف في أسرة شانغ (القرن 16- 11 ق. م)، وتُعتبر “الهيروغليفية الحية” الوحيدة التي لا تزال محفوظة بالكامل في العالم، وواحدة من أقدم اللغات الهيروغليفية في العالم، و”الأحفورة الحية” لأصل وتطور الكتابة في المجتمع البشري.
تعني كلمة دونغبا في لغة قومية ناشي “الحكيم”. نشأت لغة دونغبا من ((كتاب دونغبا المقدس)) الذي يُعتبر من الكتب القديمة والسجلات الدينية وموسوعة لقومية ناشي. كان حكماء قومية ناشي يجيدون لغة دونغبا، كما أنهم برعوا في الأغاني والرقصات والكتب المقدسة والخط والتاريخ والرسوم وتوارثوها على مدى آلاف السنين، مما جعل لغة دونغبا منظومة ثقافية شاملة وعميقة وساحرة وكاملة.
في أوائل عشرينات القرن العشرين، أمضى الباحث الأمريكي جوزيف لوك أكثر من عقدين من البحث حول ثقافة دونغبا، ونشر ((قاموس لغة ناشي واللغة الإنجليزية))، وبذل قصارى جهده للمحافظة على ثقافة دونغبا وتوارثها. جمع حوالي ثمانية آلاف كتاب من كتب دونغبا المقدسة وأخذها إلى خارج الصين. جُمعت هذه الكتب المقدسة لاحقا في مكتبات كبرى في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
مدينة حجرية في أعماق الجبال
على الرغم من أن معظم أبناء قومية ناشي يعيشون في منطقة السهول، كان بعض أسلافهم يعيشون في أعماق الجبال. تقع مدينة باوشان الحجرية في قرية باوشان بناحية باوشان في محافظة يويلونغ الذاتية الحكم لقومية ناشي بمدينة ليجيانغ، وهي قرية لقومية ناشي ووحدة لحماية التراث الثقافي على المستوى الوطني.
تم بناء المدينة الحجرية على صخرة ضخمة منفصلة على شكل الفطر، تحيط بها الجبال من ثلاث جهات والمياه من جهة واحدة، حيث يتدفق نهر جينشا إلى المدينة من مكان بعيد، ويغادرها، ليلا ونهارا. أما الصخرة الضخمة التي تحمل المدينة الحجرية، فهي مرتفعة في الغرب ومنخفضة في الشرق، ومتجهة مباشرة نحو نهر جينشا. والمنازل مرتبة أيضا على شكل منحدر باتجاه الأسفل. هذه القرية التي يتجاوز عمرها تسعمائة سنة لا تزال تعيش بنمط الحياة القديم.
بنت مائة وثماني عائلات منازل لها على الصخر. البيوت مرتبة، والشوارع والأزقة تتقاطع، والدرجات تتجه لأعلى ولأسفل، نصف طبيعية ونصف مصطنعة، والأقدام التي خطت على الصخور لآلاف السنين جعلت لونها فيروزيا. الأفنية السكنية في المدينة الحجرية، تم ترتيبها حسب أحوال الصخور، والطاولات والمقاعد في المنطقة العامة مصنوعة من الصخور الطبيعية بعد عملية نحت بسيطة، والمنازل، وكذلك المطابخ، بُنيت من الصخور أيضا. ويمكن أن تتدفق الينابيع الصافية مباشرة إلى خزانات المياه في مطابخ البيوت، وتم حفر مزاريب في أسفل خزانات المياه لتوجيه مياه الصرف الصحي من الغرف الحجرية إلى خارجها. وتصنع الأَسِرة من الصخور أيضا، وتنحت في منتصف السرير حفرة صغيرة لإشعال النار فيها من أجل التدفئة، وتعلق أعلاها غلاية حديدية أسود لونها نتيجة حرق الحطب تحتها. تُحمل كل المستلزمات اليومية التي تدخل المدينة على ظهور الحمير والخيول وأكتاف العمال، حتى وإن كانت مواد البناء الثقيلة.
للمدينة الحجرية بوابتان فقط، واحدة في الأمام والأخرى في الخلف، وتحيط بها الجروف من ثلاث جهات وسور من الجهة الرابعة. البوابة الأمامية هي الأكثر ازدحاما في الصباح، حيث يمر الناس منها لدخول المدينة والخروج منها. تؤدي البوابة الخلفية مباشرة إلى ضفة نهر جينشا وعلى جانبي النهر طبقات متدرجة من الحقول، والجبال البعيدة تلوح في الأفق، والأعشاب تشبه الضباب، ومياه النهر القريب زرقاء صافية.
الجبل الثلجي الذي يقع في محافظة يويلونغ الذاتية الحكم لقوية ناشي، تغطي أشعة الشمس الذهبية الجزء العلوي منه في الصباح الباكر، لتظهر السحب البيضاء أكثر شفافية، والجليد والثلج أكثر بياضا، والجبال البعيدة أكثر عمقا. يحمي جبل يويلونغ الثلجي قرى قومية ناشي لتعيش وتتكاثر بلا انقطاع.