على اسم مصر التاريخ يقدر يقول ما شاء.. أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء.. بحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب.. وبحبها وهي مرمية جريحة حرب.. بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء.. وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء.. وأسيبها وأطفش (أهرب) في درب وتبقى هي في درب… وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب”.

هذه الكلمات الشهيرة كتبها الشاعر صلاح جاهين معبّرا عن تأثره بهزيمة يونيو/حزيران 1967، بعد سنوات طويلة من التغني بإنجازات الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وكتابة الأشعار والأغاني في مدحها.

 

ولد جاهين في 25 ديسمبر/كانون الأول في حي شبرا في قلب القاهرة عام 1930، ترك دراسة القانون، ورفض أن يعمل في السلك القضائي مثل والده.

عمل رساما للكاريكاتير في مجلة صباح الخير، ثم في “روز اليوسف”، وانتقل إلى جريدة الأهرام التي يرأس تحريرها الكاتب محمد حسنين هيكل، ليصبح واحدا من أبرز أصوات الدعاية في النظام الناصري.

 

الأكثر إيمانا بثورة يوليو/تموز

تقول صحيفة الأهرام المصرية الرسمية إن صلاح جاهين كان من أكثر الشعراء إيمانا بمبادئ ثورة 23 يوليو/تموز التي غرسها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وسعى جاهدا في تطبيقها، وهو ما انعكس في كلمات الأغاني التي كتبها وتغنّى بها كبار الفنانين، مثل أم كلثوم في أغنيتها “ثوار”، والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في أغانيه الوطنية “إحنا الشعب”، “بالأحضان”، “بستان الاشتراكية”، “المسؤولية”، “صورة”، “ناصر يا حرية”، “يا أهلا بالمعارك”.

 

الرباعيات

تميز جاهين بكتابة الرباعيات منذ نهاية الخمسينيات على صفحات مجلة صباح الخير على نحو أسبوعي، على غرار رباعيات الخيام الشهيرة، والرباعية قالب شعري يرجع إلى أصول فارسية، انتقل إلى الشعر العربي الحديث وأصبح من فنونه المحببة، كما يعرفه الناقد جابر عصفور في صحيفة الأهرام.

ويضيف عصفور أنه يظن أن رباعيات الخيام ترددت في أصداء بيت جاهين طفلا وفتيا، فحاول جاهين أن يستخدم قالب الرباعية على نمط قصيدة العامية المصرية ليؤكد الحضور المتميز لهذا القالب الشعري، سواء في لغته التي تتوسط بين العامية والفصحى، أو في صوره الشعرية التي تمضي مع الخيال في تأملاته التي تحلّق بين السماء والأرض.

واستعرض برنامج “خارج النص” -من إنتاج قناة الجزيرة- رباعيات جاهين، وذكر البرنامج أن جاهين كتب أولى رباعيته بعد اعتقال أستاذه فؤاد حداد الذي آمن به أكثر مما آمن بعبد الناصر:

مع إن كل الخلق من أصل طين
وكلهم بينزلوا مغمضين
بعد الدقايق والشهور والسنين
تلاقي ناس أشرار وناس طيبين
عجبي!

ووفقا للبرنامج، سمح عبد الناصر برباعيات جاهين معتبرا إياها هامشا للحرية، حيث حملت هذه الرباعيات إسقاطات منحتها مساحة للتأويل والتفسير.

 

القضية العربية

ولا ينفصل جاهين في رباعياته عن الواقع العربي، إذ يقول متأملا أوضاع البلاد العربية التي كانت تعاني من الاستبداد:

أنا كل يوم أسمع: فلان عذبوه
أسرح ف بغداد والجزاير وأتوه
ما أعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب
وأعجب من اللي يطيق يعذب أخوه
عجبي!

هل قصد عبد الناصر؟

في واحدة من أشهر رباعياته وأكثرها إثارة للجدل، كتب جاهين:

يا طير يا عالي في السما “طز فيك”
ما تفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود وللطين تعود
تمص فيه يا حلو، ويمص فيك
عجبي!

نشر جاهين هذه الرباعية، فحاول البعض الإيقاع بينه وبين عبد الناصر أنه يقصده، لكن عبد الناصر رفض أن يصدق أن جاهين الذين طالما تغنى باسمه يمكن أن يكتب فيه هذه الكلمات.

ويرى الشاعر وأستاذ النقد الأدبي سيد خلف أن جاهين اختار أن يظل في المنتصف، يدافع عن عبد الناصر ثم يوجه بعض اللوم للشعب المصري الخانع الذي تنازل عن معظم حقوقه وعن الوعود التي قدمتها ثورة يوليو/تموز 1952.

ويضيف خلف -في برنامج “خارج النص”- أن هذا التحول في شخصية جاهين دفعه إلى صدام غير مباشر مع عبد الناصر، جعله يشك أنه كان مقصودا بكلمة “طز فيك”.

 

خشي الجهر بانتقاد عبد الناصر

يعلّق الناقد طارق الشناوي أن جاهين عاش 16 عاما بعد وفاة جمال عبد الناصر، ولكنه لم يؤكد أو ينفي أنه قصده بهذه الرباعية، وينقل عن صديقه المخرج علي بدرخان أن جاهين كان من أكثر الشعراء الذين تغنّوا بعبد الناصر.

ويضيف الشناوي -في مقال بصحيفة الشرق الأوسط– أن جاهين كان يخشى الجهر بانتقاد عبد الناصر، حتى إنه شارك في تأليف سيناريو فيلم “الكرنك” عام 1975 وطلب عدم كتابة اسمه على “التترات” لأن الفيلم ينتقد بضراوة زمن الستينيات والمعتقلات.

واستنكر جاهين محاولات السعي بالوقيعة بينه وبين عبد الناصر، وتوقف عن نشر الرباعيات أسبوعين، ثم كتب ردا على أعدائه:

أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جَرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه خفتوا ليه
لا فْ إيدي سيف ولا تحت مني فرس
عجبي!

وهي رباعية تقطر المرارة من البسمة التي تبعثها، وتتصل بوضع الفنان أو المبدع في مواجهة مهمته الصعبة التي يفرضها عليه ارتباطه بهموم البشرية، فتجلب له المواجع وتجرّ عليه القمع، في حين يتحول الفنان إلى جرس إنذار يقرع به آذان الظلمة، كما يرى الناقد جابر عصفور.

 

النكسة

هزّت النكسة كيان جاهين كما فعلت بكثير من المثقفين، فعانى من الاكتئاب الحاد، وعلق الصحفي الشهير مصطفى أمين بعبارته الساخرة “سقط صلاح جاهين فريسة البيانات الرسمية لصديقه” (يقصد عبد الناصر).

كتب جاهين أخر رباعياته عام 1968، معبّرا عن حيرته ومعيدا التفكير في المسلّمات وإيمانه بالنظام الناصري:

ولو انضنيت وفنيت وعمري انفرط
مش عاوز ألجأ للحلول الوسط
وكمان شطط وجنون مانيش عاوز
يا مين يقول لي الصح فين والغلط
عجبي!

نعي عبد الناصر بالكاريكاتير

تميز جاهين أيضا في رسم الكاريكاتير، ونعى عبد الناصر ومشروعه القومي برسومه، فنشر على صفحات صحيفة الأهرام رسمتين تجسد أولاهما سيدتين تبكيان ناصر بعد وفاته؛ كأنهما “مصر والأمة العربية”، وخلفهما جدار عليه صورة عبد الناصر، وعلى جدار البطولات ما قدمه عبد الناصر للشعب من طاقة وجهد، وفي كاريكاتير آخر يقف رجل يحمل راية عليها رسم لناصر، وكتب معلقا “راية النضال.. الجماهير تعاهد عبد الناصر على التمسك بمبادئه”.

واجه جاهين كثيرا من الانتقادات بسبب توجهه لكتابة الأفلام التجارية، فكتب سيناريو وأغاني “خلي بالك من زوزو” للفنانة سعاد حسني والفنان حسين فهمي، وحقق الفيلم نجاحا ساحقا.

توفي صلاح جاهين في 21 أبريل/نيسان عام 1986 بعد معاناة طويلة مع الاكتئاب عن 55 عاما، لينضم اسمه إلى صفوف العباقرة الذين عبّروا عن المصريين وآلامهم وأحلامهم بشعرهم ورسومهم.