أُسر ياقوت الحموي في إحدى المعارك وهو صغير، حين تم غزو مدينته في بلاد الروم، ليكون تابعا أو عبدا عند تاجر بغدادي أمّي، وفي حين أراده أن يكون معينا له في التجارة، انصرف الحموي إلى اللغة والأدب والتاريخ والجغرافيا، مستفيدا من أسفاره الكثيرة ليكون عالمًا جليلًا.
وكغيره من العلماء تعرّض لكثير من المحن وشهد الكثير من الغزوات، وانصرف للكتابة والتأليف في صنوف العلم العديدة مستفيدا من مكتبات المدن التي أقام فيها فترة محدودة كبغداد وحلب ودمشق وغيرها، ليكون واحدا من أشهر العلماء ويكون مؤلفاه “معجم البلدان، معجم الأدباء” من أهم الكتب التي أصبحت مرجعا منذ ما يقرب من 800 عام.
فماذا نعرف عن الحموي الذي توفي عام 622هـ/1225م حيث كان قد تعلّم اللغة وأبدع فيها وصار مرجعا للباحثين والمؤرّخين، ومن يريد التدقيق في تاريخ المدن واللغة والأدب.
سيرة
اسمه كما تقول المصادر ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي وشهرته ياقوت الحموي، وُلد في بلاد الروم (اليونان) عام 574هـ/1178م، وتعرض للأسر وهو صغير، وابتاعه ببغداد تاجر يعرف بعسكر بن أبي نصر إبراهيم الحموي، فنُسب ياقوت إليه، ونشأ مسلما وغلب عليه لقب الحموي.
كان مولاه عسكر أميا لا يعرف شيئا سوى التجارة، لكنه عنيَ بتعليمه، لينتفع به في تجارته، فتلقّى العلوم المعروفة من نحو ولغة، ولما كبر شَغَله مولاه بالأسفار في تجارته إلى كيش وغمان.
وكان يعيش من نسخ الكتب، بعد أن جاب البلدان، فزار تبريز أشهر مدن أذربيجان سنة 610هـ، وزار مصر ما بين 610ـ613هـ. كما زار دمشق سنة 613هـ وتوجه إلى حلب مارّا بحمص وحماة، وخرج إلى الموصل ومنها إلى أربيل، ثم اتجه إلى خراسان التي كانت تحت حكم محمد بن تكش خوارزم شاه (569-617) فأقام فيها يتاجر في مدنها، واستوطن مرو مدة، ثم انتقل سنة 616هـ إلى خوارزم.
وقد استفاد كثيرا مما جمعه من المكتبات التي تردّد عليها في مراكز الثقافة التي نشطت فيها الحياة الفكرية، كدمشق وحلب في ظل الحكم الأيوبي، وقد أقام الحموي في مرو 3 سنوات وكان فيها 12 ألف مجلد أو ما يقاربها، وكان يستعير في وقت واحد ما يقارب من 200 مجلد، فكان “يرتع فيها ويقتبس من فوائدها”.
الموسوعة الباذخة
“معجم البلدان” الذي يعد من أشهر كتب الحموي باشر فيه عام 625هـ، وأهدى نسخه بخطّه إلى القاضي أبي الحسن جمال الدين الشيباني. وهذا الكتاب من أعظم المراجع، وهو مؤلف في أسماء البلدان والجبال والأودية والقيعان والقرى والمدن والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأوثان، مرتّبة على حروف الهجاء، ويمتاز بدقّته واتّساعه وجمعه بين الجغرافيا والتاريخ والعلم والأدب، وكان الحموي أمينا في ذكر مصادره ومراجعه التي اعتمد عليها، وكان من أكثر العلماء عناية بمظاهر الثقافة الشاملة، ومن أبعدهم عن الأخذ بالخرافة والأساطير، وقد عني المستشرق هير (Heer) نهاية القرن الـ 19 بدراسة “معجم البلدان” وكتب بحثا عن المراجع التاريخية والجغرافية التي اعتمدها الحموي لتصنيف هذا المعجم.
يقول الباحث والمؤرّخ وعضو المجمع العلمي العراقي الدكتور حسن عبيد عيسى “ما من مؤرّخ فذّ يشرع بالتدوين إلّا ويتّكئ منذ شروعه بالعمل على عمود من كتاب: معجم البلدان لياقوت الحموي” الذي يعد “موسوعة باذخة” ويعده سجلا أمينا متكاملا للجغرافيا التاريخية “وهو من أفضل ما حفظ لنا الزمان من كتب هذا الجنس من العلوم التي نأنس بها ونلجأ إليها عند الحاجة”.
ويرى الباحث أن الحموي “كان فطنا ويسجّل ملاحظاته عن كلّ بلد يمرّ بها وهي التقاطات مفيدة” بل يزيد على قوله إن التقاطات الحموي “لم تكن هي مورده الوحيد، فلقد رجع الى مئات الكتب ليستخلص منها معلومات تكمل النقص في مشاهداته أو تعزّزها، أو تعوض النقص في معرفة ما لم يزره من بلدان بما نسميه الآن المقابلات”.
ويشير إلى أن الباحثين والمؤرّخين والمهتمين وبفضل ما دونه الحموي “تعرفوا على مدن اندثرت معالمها من مئات السنين” وإنه ذكر أعلام تلك المدن “مع نبذ سير من تيسرت له سيرهم إضافة إلى معلومات وافرة عن اقتصاديات تلك المدن وطبيعة تدوينها أو عدمها” مؤكدا أن كل هذا جعل الجميع يرون في كتابه “معجم البلدان” موسوعة وليس كتاباً.
معجم الأدباء متحف فخم
وللحموي مؤلّفات عديدة منها كتاب: معجم البلدان، معجم الأدباء، المقتضب في النسب، معجم الشعراء، المبدأ والمآل، مجموع كلام أبي علي الفارسي، أخبار المتنبي، كتاب في الديارات.
وتقول الدكتورة زينب علي عبد أستاذة التاريخ الإسلامي في جامعة كربلاء “عندما يذكر اسم ياقوت الحموي فإن ذهن المتلقّي ينصرف صوب كتابه: معجم البلدان”. لكنها تقول إن جهده لم يقتصر على هذا المؤلف، بل له كتاب فخم من 20 جزءًا هو “معجم الأدباء” حيث قام بتسجيل من رآه أديبا يستحق الذكر.
وتضيف أن الحموي جمع عددا هائلا من الأدباء في مختلف صنوف وأجناس الأدب، من شعراء وخطباء وحكماء وفلاسفة ومؤلّفين مرموقين، ولهذا ترى أنه كان حريصا على أن “يأتي بالأصيل النافع عن كل منهم، وحرص على أن يذكر أسماء مئات الكتب مما لم يعد متداولا في عصرنا الحاضر”.
وتشير الدكتورة زينب إلى أن الحموي أرّخ للنتاج الثقافي لعصور عديدة سبقت الإسلام وامتدت حتى وقت وفاته. وتضيف أنه كان “مثقفا من الصنف المتقدّم، لذا نراه يمارس حقه في النقد الذي لا يصل إلى تجريح الشخصية” وتعود لتقول إن كتاب “معجم الأدباء” مصدر ومنهل وملهم لعموم المؤرّخين، خاصة مؤرّخي الأدب العربي، بحقبه القديمة”.