يرى مختصون في الشأن اللغوي أنّ قضية التعريب في الجزائر شكّلت، على مدى 6 عقود من الاستقلال، معركة بأبعاد لغوية وثقافية وأيديولوجية وسياسية ترتبط بمراكز القرار والنفوذ، وذلك على خلفية الانقسام النخبوي الذي خلّفه الاستعمار الفرنسي.

وإذا تمكنت الجزائر -بعد 59 عامًا من استرجاع سيادتها الوطنية- من تعريب التعليم العام بكل أطواره، والعلوم الإنسانية بالجامعات، وكثير من القطاعات الوزارية، فإنّ الفرنسية لا تزال -في تقدير مراقبين- نافذة في الإدارات المركزية والمحليّة وبدوائر الاقتصاد والماليّة والدبلوماسيّة.

كما أنّ كثيرا من مظاهر المحيط العام بالمدن الحضرية الكبرى على غرار اللافتات الإشهارية وفضاءات الخدمات التجارية والسياحية تعكس -برأي تيار التعريب- تغلغل الفرنسية في الجزائر.

بل إنّ مدارس خاصة ورياض أطفال تفرض الفرنسيّة في مناهجها بطريقة مخالفة للقوانين، بحسب تحذيرات وزارة التربية في عديد المناسبات.

ومؤخرا، أعادت تعليمات دوائر حكومية لموظفيها -بشأن إلزامية احترام القانون في ما يتعلق باستعمال اللغة الرسميّة- قضية التعريب إلى واجهة النقاش في الجزائر، خاصة أنه كان من الشعارات الرئيسة في حراك 22 فبراير/شباط 2019.

وفي اليوم العالمي للغة العربية، المصادف 18 ديسمبر/كانون الأول، حاولت الجزيرة نت الوقوف مع مسار التعريب في الجزائر، رصدًا وتقييمًا واستشرافًا.

 

التصحيح اللغوي

من المعلوم أنّ الدولة الجزائرية واصلت بين عامي 1962 و1963 تعاملاتها باللغة الفرنسية عبر كل الأجهزة الإدارية والاقتصادية، لأنّ الرئيس أحمد بن بلة نفسه وجل إطارات الدولة من خريجي المدرسة الفرنسية لا يتقنون العربية.

ولأول مرة، نصّ دستور عام 1963 على أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، قبل صدور أولى الإجراءات العملية للأمر الرئاسي يوم 26 أبريل/نيسان 1968، المتضمن إجبارية معرفة اللغة العربية على الموظفين.

وهو ما دفع بالمفرنسين إلى الانخراط في دورات تعليمية ودروس محو الأمية في العربية للحفاظ على مناصبهم، إلا أن القانون لم يحمل الصيغة الإجبارية في تعامل الإدارة بالعربية، حسب ما يؤكد بشير فريك في كتابه “الهيمنة الفرنكوفونية على الإدارة الجزائرية”.

وتقدم الرئيس هواري بومدين خطوة أخرى عام 1970، بإصداره أمرية جديدة بوجوب تعريب وثائق الحالة المدنية، ونقل كل السجلات العائلية من الفرنسية إلى العربية، وتبع ذلك تعريب الأختام الرسمية .

وسبتمبر/أيلول 1971، أشرف بومدين على تنصيب اللجنة الوطنية المكلفة بعملية التعريب في كل قطاعات الحياة العمومية، لتحتضن الجزائر المؤتمر العربي الثاني  للتعريب بعد مؤتمر الرباط، وفقا لما يسجله عبد القادر فضيل في كتابه “معركة الهوية في الجزائر”.

 

ويعدّ صدور أمرية المدرسة الأساسية يوم 16 أبريل/نيسان 1976، المكرسة للانتماء العربي الإسلامي لها، من أبرز إنجازات المرحلة “البومدينيّة” لصالح التعريب، وفق المصدر ذاته.

وفي غضون ذلك، استمات التيار الفرنسي في المقاومة، خاصة في الإدارة والتعليم والجامعات، مما أدى إلى إضرابات واحتجاجات طلابية، امتدت إلى الثانويات خريف 1979، بل سقط  خلالها ضحايا في مواجهات دامية، بحسب شهادات موثقة.

ثمّ تدخلت جبهة التحرير الوطني -الحزب الوحيد القائد للدولة- خلال مايو/أيار 1980 لتقرير تعميم استعمال اللغة العربية وإلزام الوزراء، وهم أعضاؤها، بتطبيق القرار وتقديم عروض حال عن سير العملية، وفق ما يثبته أرشيف مداولات الحزب.

لكنّ ظهور “المجمع الجزائري للغة العربية” تأخر إلى غاية السابع من يناير/كانون الثاني 1984، وبعدها بـ4 سنوات صدر القانون بإجبارية تعريب مهنة التوثيق.

عهد جديد

بإقرار دستور 23 فبراير/شباط 1989، دخلت الجزائر عهدا جديدا من التعريب في سياق الانفتاح السياسي، حيث صدرت قوانين كثيرة تفرض التعامل باللغة العربية.

وبموجب ذلك صارت الأحزاب والجمعيات والوزارات والإدارات المحلية والنواب والمحاكم  والمؤسسات الإعلامية مجبرة على التعامل مع المواطنين باللغة العربية.

ثمّ تبنّى البرلمان الجزائري القانون الأكثر شهرة في هذا المجال، وهو تشريع تعميم استعمال اللغة العربية الصادر في السادس من يناير/كانون الثاني 1991، قبل حدوث الردّة عنه بتوقيف المسار الانتخابي في 11 يناير/كانون الثاني 1992 وصعود “التيار الفرنسي” إلى الحكم، عبر “المجلس الأعلى للدولة”، وكذا “المجلس الاستشاري”، حسب ما يعتقد الكاتب فريك.

وكان من أهم القرارات المستعجلة التي وقعها تجميد قانون تعميم التعريب إلى غاية بعثه مجددا، في عهد الرئيس ليامين زروال، بتاريخ 21 ديسمبر/كانون الأول 1996، وإحياء المجلس الأعلى للغة العربية.

وحدد القانون المذكور آجال التعميم بتاريخ الخامس من يوليو/تموز 1998، في حين مدّد المهلة بالنسبة للتدريس في كل المعاهد ومؤسسات التعليم العالي إلى أجل أقصاه الموعد نفسه من عام 2000.

غير أنّ عبد العزيز بوتفليقة -بوصوله إلى الرئاسة ربيع 1998- غيّب القانون وتجاهله عمليّا بمخاطبته المواطنين باللغة الفرنسية، والكلام للكاتب فريك أيضا، مما شجع “غلاة التغريب على طيّ صفحة التعريب مؤقتا”، إلى غاية اندلاع حراك فبراير/شباط 2019.