لأن شركات إنتاج الأفلام العالمية تجني إيراداتها من شباك التذاكر بعرض أفلامها في السينمات جنبا إلى جنب عرضها عبر الشاشات، فإنها تفضل البدء بجني الأرباح من شباك التذاكر، وبعد عدة أشهر تبدأ في تحصيل باقي الأرباح من الشاشات، لكن لم تسر الأمور هكذا في أثناء جائحة كورونا.
خسارة السينمات مقابل نجاح العرض الرقمي
بعد أسابيع من تفشي جائحة كورونا، وجدت شركة “يونيفيرسال بيكتشرز” (Universal Pictures) نفسها بين خيارين، إما تأجيل عرض الجزء الثاني من فيلمها “ترولز” (Trolls)، أو عرضه في السينمات في الوقت نفسه مع عرضه عبر الشاشات، أي فعليا عرضه على الشاشات قبل السينمات، لأنها كانت مغلقة في معظم أنحاء العالم في ذلك الوقت.
المفاجأة أن الفيلم حطم كل أرقام الأرباح المتوقعة، إذ جنى الجزء الثاني في أول 3 أسابيع أرباحا جاوزت ما حققه الجزء الأول خلال 5 أشهر من عرضه في السينمات، وفق صحيفة “وول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal) الأميركية. كما أصبح الفيلم الأكثر طلبا عبر منصات عرضه مثل “أمازون” (Amazon) و”آبل” (Apple)، وشهد أكبر يوم افتتاح لفيلم رقمي، محققا ما يقرب من 10 أضعاف إنتاج الفيديو المنزلي التقليدي، وفق موقع مجلة “فارايتي” (Variety) الأميركية.
جاء هذا في وقت تكبدت فيه السينمات خسائر كبيرة، إذ وصلت خسائر دور العرض الأميركية الأشهر “إيه إم سي إنترتينمنت” (AMC Entertainment) عام 2020 وحده نحو 4.6 مليارات دولار، وبذلك تراجعت إيرادات الشركة بنسبة 77.3% لتصل إلى 1.2 مليار دولار، بعدما جنت 5.5 مليارات دولار عام 2019.
ورغم هذا النجاح للعرض الرقمي والخسائر الفادحة التي تكبدتها دور العرض في ظل جائحة كورونا، وبالتزامن مع الصعود الكبير لمنصات العرض الإلكترونية مثل “نتفليكس” (Netflix) و”أمازون برايم” (Amazon Prime) و “إتش بي أو” (HBO) وغيرها من منصات العرض، لا تزال السينمات تفتح أبوابها، كما تعتبر وسيلة مهمة لجني الأرباح.
كيف تجني السينمات الأرباح مع العرض الرقمي؟
لنأخذ فيلما متعدد الأجزاء والإصدارات مثل “قصة لعبة” (Toy Story) مثالا على أهمية عائدات السينما بالنسبة لكبرى شركات الإنتاج الأميركية لتحقيق الأرباح، إذ أطلق إصداره الأول في السينمات الأميركية بالأسبوع الأخير من نوفمبر/تشرين الثاني 1995، ولم يصبح متاحا للمشاهدة على الشاشات في المنازل حتى أكتوبر/تشرين الأول 1996، أي بعد 11 شهرا من عرضه في دور السينما، وهذه المدة التي يعرض فيها الفيلم في السينما فقط، تعرف باسم “النافذة المسرحية”.
لكن هذه “النافذة المسرحية” أصبحت أقصر مع الوقت، فقد أصبحت 3 أشهر فقط مع إطلاق الجزء الرابع من “قصة لعبة” يونيو/حزيران 2019. تقلص مدة “النافذة المسرحية” جاء نتيجة معركة استمرت لعقود بين دور العرض أو السينمات وبين استوديوهات الأفلام، كما أشار فيلم وثائقي قصير أطلقته منصة “فوكس” (Vox) الأميركية.
وفي أربعينيات القرن الماضي، قضت المحكمة العليا الأميركية أن السينمات واستوديوهات العرض كيانات منفصلة، وظلت مشاهدة الأفلام تستدعي الذهاب للسينما لفترة من الزمن، لكن مع الوقت ظهر العديد من خيارات المشاهدة المنزلية مثل أقراص “دي في دي” (DVD)، والتلفزيون، وأيضا منصات العرض المتنوعة، وحتى لا تخسر السينمات وسط المنافسين الجدد، أبرمت اتفاقا مع استوديوهات الأفلام، لإنشاء هذه “النافذة المسرحية”، إذ يعرض الفيلم عبر شاشات السينما حصرا لفترة محددة، قبل إتاحة عرضه عبر الشاشات المنزلية بمختلف الطرق الأخرى.
واستفادت استوديوهات الأفلام من هذا الاتفاق أيضا، ففي حين تكسب السينمات من عرض الأفلام عبر شاشاتها، فإنها تقسم أرباح التذاكر بالنصف تقريبا مع استوديوهات الأفلام، التي تستمر في جني أرباح من عرض أفلامها عبر منصات أخرى سواء على شاشات التلفزيون، أو منصات العرض الرقمية، أو أقراص “دي في دي” وغيرها من الطرق، وهو ما يضمن لها استمرار تحقيق أرباح حتى بعد فترة طويلة من عرض أفلامها في السينمات. وتعد هذه صفقة رائعة بالنسبة للاستوديوهات التي تنفق الملايين على إنتاج أفلامها.
بالنسبة للفلمين اللذين أخذناهم مثالين، نجد أن تكلفة إنتاج الأول “ترولز” (Trolls) بلغت نحو 125 مليون دولار، أما بالنسبة للجزء الأول من فيلم “قصة لعبة” الذي أنتج في تسعينيات القرن الماضي، فقد بلغت ميزانية إنتاجه 30 مليون دولار، بينما وصلت ميزانية الجزء الرابع إلى نحو 200 مليون دولار.
مدة “النافذة المسرحية” للعرض الحصري في السينمات
واختلفت مدة “النافذة المسرحية” مع اختلاف ظروف طرق العرض الأخرى، ففي فترة انتشار أقراص “دي في دي” -على سبيل المثال- كانت مدة “النافذة المسرحية” تصل إلى 6 أشهر. وعام 2010، اقترحت شركة “وارنر براذرز” (Warner Bros) مدة عرض تصل إلى 30 يوما، وفي العام اللاحق اقترحت شركة يونيفيرسال بيكتشرز طرح أحد أفلامها “سطو على برج” (Tower Heist) بعد 30 يوما فقط من عرضه في السينمات، التي رفضت، بل هددت بعض دور العرض بمقاطعة عرض الفيلم على الإطلاق، لتتراجع الشركة المنتجة وتطيل المدة إلى 90 يوما.
واستمر ضغط دور العرض لإطالة مدة “النافذة المسرحية” حتى دخول منافسين جدد على الساحة مثل منصة نتفليكس، التي دخلت الساحة بتحد عندما أعلنت تجربة الطرح المتزامن في المنصة الإلكترونية مع السينمات “آي ماكس” (IMAX)، وهو ما قاطعته بعض كبرى السينمات.
في السنوات الأخيرة قبل وباء كورونا، كانت تصل مدة “النافذة المسرحية” إلى نحو شهرين ونصف الشهر (74 يوما) قبل البيع الإلكتروني عبر منصات مثل “آي تونز” (iTunes) ثم أقراص “دي في دي” و”في أو دي” (VOD) ولاحقا التلفزيون.
واستمرت حرب الإطالة والتقليص لمدة “النافذة المسرحية” حتى دخلت جائحة كورونا، التي جعلت شركة مثل يونيفيرسال بيكتشرز تفكر في طرح أفلامها اللاحقة لـ”ترولز” في السينمات وعبر الشاشات في الوقت نفسه، كما فعلت شركتا وارنر براذرز، و”ديزني” (Disney) التي طرحت أفلامها العام الجاري في السينمات والشاشات في الوقت نفسه.
وهذا الأمر جعل بعض كبرى دور العرض ترضخ لصفقة تقل فيها مدة “النافذة المسرحية” ولا تلغيها، ووصلت أخيرا إلى 45 يوما مع شركتي وارنر براذرز وديزني عام 2022، أما يونيفيرسال بيكتشرز، فقد أبرمت صفقة خاصة بترك 31 يوما قبل عرض الأفلام الكبيرة على الشاشات الأخرى، و17 يوما للأفلام الصغيرة، وفي المقابل، تمنح دور العرض جزءًا من عائدات الطلب على نوافذ العرض الأخرى لتقبل بهذه المدة القصيرة لـ”النافذة المسرحية” حتى تبقى أبوابها مفتوحة لجني الأرباح أيضاً.