ينظر أغلب الناس إلى ناطحات السحاب الأميركية باعتبارها رمزا لقوة الولايات المتحدة وثقافتها وتاريخها، ولكن هل يمكن تلخيص الحضارة الأميركية في هذه المباني الشاهقة التي ظهرت في القرن العشرين؟
في تقرير نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، تقول الباحثة ديانا دارك الخبيرة في ثقافة الشرق الأوسط، إنه في ظل تركّز أنظار العالم على الولايات المتحدة وهي تمر بالمراحل الأخيرة من سباقها الرئاسي المثير، فقد حان الوقت لاستكشاف الرموز الثقافية التي تختفي وراء أشهر المباني في البلاد، وما إذا كانت تلك الرموز تجسّد فعلا حقيقة الأمة وهويتها.
وتعتبر مؤلفة كتاب “بيتي في دمشق” الباحثة في التراث السوري، أن مبنى البيت الأبيض، وقبة الكابيتول بواشنطن، وهما من أهم الرموز المعمارية في الولايات المتحدة، يخفيان الكثير من الحقائق عن تاريخ البلاد، “فمن يعرف مثلا، أن البيت الأبيض قد شُيّد بأيدي مجموعة من العمال السود، أو أن قبة مبنى الكابيتول مستوحاة من أسلوب القباب الإسلامية المزدوجة؟”.
ثقافة المستعمرين الأوائل
تقول الكاتبة إن المستعمرين الأوروبيين الأوائل الذين هاجروا إلى القارة الأميركية، تجاهلوا إلى حد كبير ثقافة السكان الأصليين، بل أكثر من ذلك، فقد وصل كريستوفر كولومبوس إلى تلك البلاد مفعما بالحماسة الكاثوليكية في أعقاب حروب الاسترداد، وارتكب مجازر في حق سكانها، وهو ما تشهد عليه حتى اليوم مدينة ماتاموروس (وتعني باللغة الإسبانية “قاتل المورو”) في شمال شرق المكسيك.
ولكن من المفارقات -وفقا للكاتبة- أن الإسبان جلبوا معهم العديد من الأساليب المعمارية التي ورثوها عن المسلمين الذين سيطروا على أجزاء من شبه الجزيرة الإيبيرية لعدة قرون.
عندما شيّد الملوك المسيحيون، على غرار ألفونسو الحادي عشر وبيدرو ملك قشتالة، قصورهم في إسبانيا، اعتمدوا أساليب “الفن المدجن” ووظّفوا حرفيين مسلمين، وانتقل ذلك التأثير الإسلامي عبر البعثات الكاثوليكية الإسبانية إلى كاليفورنيا وولايات أخرى كما تقول الباحثة البريطانية.
وتضيف ديانا دارك أن المستعمرين الفرنسيين والبريطانيين قد جلبوا أيضًا أساليبهم الخاصة إلى الولايات المتحدة. فقد أرسلت الحكومة الفرنسية مهندسين معماريين ماهرين إلى مدينة نيو أورليانز، بينما اعتمد الإنجليز الأساليب المعمارية ذاتها التي كانوا يستخدمونها في بلادهم.
كما اهتم الرئيسان جورج واشنطن وتوماس جيفرسون بشكل كبير بإبراز الهوية الأميركية من خلال الهندسة المعمارية، وعملا على تصميم العاصمة واشنطن وفقًا للنموذج اليوناني القديم الذي اعتقدا أنه مناسب لإبراز ملامح الديمقراطية الوليدة.
ورغم ذلك، تؤكد الباحثة البريطانية أن التأثير الإسلامي واضح جدا في العاصمة الأميركية، إذ أن قبة مبنى الكابيتول مستوحاة من القباب المزدوجة التي ابتكرها السلاجقة، ثم طوّرها الأتراك العثمانيون، وهي التقنية التي اعتمدها المعماري البريطاني كريستوفر رين (Christopher Wren) في تشييد قبة كاتدرائية القديس بولس في لندن.
القوطية الحديثة
تضيف الكاتبة أن الإنجليز والفرنسيين نقلوا إلى أميركا أيضًا خصائص العمارة القوطية، وهو الأسلوب الذي انتشر على نطاق واسع في أوروبا خلال القرون الوسطى.
وكان المعماري البريطاني كريستوفر رين (1632 – 1723م)، يرى أن العمارة القوطية من خلال “فخامة أعمالها”، و”الجرأة المفرطة في ارتفاعاتها”، و”الرقة والإسراف الفاخر في زخارفها”، يمكن أن “تُنسب فقط إلى الموريين أو العرب أو الساراسين”. (المسلمين بتسمية العصور الوسطى الأوروبية).
وما يدعم هذا الرأي حسب الكاتبة، أن ظهور فن العمارة القوطية في أوروبا لأول مرة خلال القرن الثاني عشر، كان بعد فترة وجيزة من عودة الفرسان النورمانديين الفرنسيين من القدس ونهاية حملتهم الصليبية الأولى.
وتؤكد الكاتبة أن خصائص الهندسة المعمارية القوطية واضحة وجلية في جامعات الولايات المتحدة وكلياتها ومدارسها أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ويظهر ذلك بالخصوص في جامعات أكسفورد وكامبريدج.
كما أن هذه السمات المعمارية واضحة -حسب رأيها- في كاتدرائية القديس جون الإلهية في ضاحية مانهاتن بنيويورك، وهي مستوحاة من الهندسة الشرقية والمعمار البيزنطي اللذين تم دمجها معا في نمط واحد.
رؤية مشتركة للمستقبل
في أوقات الطاعون والأوبئة، تم استخدام الكاتدرائيات القوطية الأوروبية في العصور الوسطى لعلاج المرضى. وخلال الجائحة الحالية، اقترح البعض أن تتحوّل كاتدرائية القديس جون إلى مستشفى ميداني لمرضى جائحة كورونا.
ولكن حتى هذه الفكرة، أخذها الصليبيون عند عودتهم من العالم الإسلامي، كما تقول الكاتبة، إذ كانت المساجد تعمل بشكل وثيق مع المستشفيات التي تعالج المصابين بالجذام والعرج وغيرهما من الأمراض، وكانت تلك التقاليد تكريسا للمبادئ الإسلامية التي تحث على التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع.
وتدل هذه الآثار المعمارية حسب الكاتبة، على تعدد الثقافات التي صنعت تاريخ الولايات المتحدة، وهي مزيج من الحضارات البيزنطية والإسلامية والأوروبية، وذلك عكس ما يروج له البعض ممن يريدون اختصار ملامح الحضارة الأميركية في ناطحات السحاب أو الواجهة الجديدة للبيت الأبيض.
وخلصت الكاتبة إلى أن تلاقح الثقافات وتفاعلها، يكشف كل أنواع الزيف ومحاولات إخفاء الحقائق التاريخية، مضيفة أن التحدي الأكبر هو إيجاد رؤية مشتركة وإنسانية للمستقبل، تضطلع فيها الهندسة المعمارية بدور حيوي.