يعرف السياح مدينة بورصة التركية مدينةً صناعية وسياحية تقع جنوب بحر مرمرة وشمال جبل أولوداغ الشهير، وتضم العديد من المعالم العثمانية وأضرحة السلاطين ومبانيهم الإدارية التاريخية.
وتوصف المدينة في الآداب التركية والعثمانية ومن قبل أكاديميين ومؤرخين، بأنها “مهد الإمبراطورية” والعاصمة المبكرة للعثمانيين التي تمثل نموذجا لما كانت عليه العديد من المدن المسلمة في الأناضول والشرق الأوسط بين القرنين 14 و16 الميلاديين.
وضمت المدينة تاريخيا العديد من الملامح التي ميزت المدن الإسلامية في عصرها، وخاصة المؤسسات الوقفية في المناطق الحضرية، وشيوع مبدأ الحسبة في التنظيم الاجتماعي للسوق المركزي، فضلا عن أدوار تقليدية مثل المحتسب والقاضي والإدارة البلدية.
وتقول الباحثة ألجين أراباجي، من قسم التاريخ بجامعة جورج تاون الأميركية، إن المستشرقين اعتادوا نقد نقائص المدينة الإسلامية، مثل افتقاد المجتمع المدني وغياب التخطيط العمراني، لكن إلقاء نظرة فاحصة على التنظيم والتخطيط في بورصة التاريخية يوضح أهمية دور “الأخويات” والنقابات، وغيرها من الأدوار التي شكلت أساس الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية في تنظيم المجتمع العثماني القديم.
ثقافة حضرية متنوعة
وتقول الباحثة إن الثقافة الحضرية العثمانية استوعبت الموروثات الرومانية القديمة. وتدرس أراباجي في ورقتها بعنوان “بورصة مدينة عثمانية نموذجية من العصور الكلاسيكية”، كيف صعد العثمانيون كإمبراطورية عالمية في غضون قرن ونصف بعد أن كانوا مجتمعا قبليا من الرحّل، وتناقش جوانب التحضّر السريع في بورصة وتحوّلها إلى مركز تجاري رائد في عالم البحر المتوسط، رغم خبرة العثمانيين الضئيلة في النشاط التجاري قبلها.
وتقول إن العثمانيين حينما دخلوا المدينة عام 1326 على يد أورهان بك نجل عثمان المؤسس، كانت بورصة محصورة بين أسوار قديمة، وسعى أورهان لتوسيعها خارج الأسوار وإنشاء مناطق جديدة لاستيطان القبائل التركية في سهل بورصة؛ وهكذا أدى التخلي عن فكرة المدينة داخل السور لتوسعها الكبير.
وعُني الحكام العثمانيون في القرن 14 بإنشاء المدينة على نمط التحضر الذي عرفته مدن البلقان العثمانية، وتم بناء وسطها ليضم مسجدا جامعا وسوقا تقليديا ومدرسة وحمامات ومطابخ للحساء وسراي (قصرا)، واهتموا بتطوير القلعة بينما توسّعت المناطق السكنية خارج أسوار المدينة.
ونظرا لأن السكان اليونانيين في المدينة قد استسلموا بعد سنوات من الحصار، فقد وعد أورهان بعدم إيذائهم وأوفى بوعده، لكنه احتفظ بالقلعة التي حولها إلى حي إداري، بينما سمح لليونانيين الذي سكنوا حولها بالسكن شمالا في قلب سهل بورصة، وشكل جبل أولوداغ الكبير جدارا طبيعيا جنوبيا لحمايتها من أي هجمات قادمة.
المدن العثمانية في البلقان والأناضول
وفي كتابه “المدن العثمانية في البلقان”، اعتبر المؤرخ المعماري الفرنسي بيير بينون أن تخصيص حي للتجارة كان أمرا أساسيا للمدينة العثمانية، والإسلامية عموما. وبالمثل كتب مواطنه المؤرخ أندريه ريموند أن “المدينة العربية قبل كل شيء، هي مدينة سوق”.
وعلى الرغم من أن ريموند ينتقد التعميمات في الحكم على المدن، فإنه يقر بانتشار الأسواق بوصفها سمة مركزية لجغرافيا وتخطيط المدن الإسلامية، مؤكدا أن “المحل” أو “الدكان” هو العنصر الأساسي لهذه الأسواق القديمة.
ويؤكد ريموند على مركزية السوق في الحياة العربية الحضرية القديمة والجغرافيا العثمانية بشكل عام، بدءا من البلقان إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتقول الباحثة إن هذه الملاحظة يمكن تعميمها في مدن عديدة من بينها دمشق وسراييفو وقيصري وغيرها. وعلاوة على ذلك، كانت هذه الأسواق مرتبطة اقتصاديا عبر طرق التجارة القديمة بين الجزء الشرقي والجزء الغربي من الشرق الأوسط القديم.
وتقول الباحثة إن كلمة “تشارشي” (çarşı) التركية/العثمانية التي تعني السوق، مشتقة من جذور فارسية (çehar-su) وتعني “4 طرق” أو “الجوانب الأربعة”، ربما للدلالة على مركزية “البازار” المحلي في المدينة الكلاسيكية العثمانية والشرق أوسطية.
وتتابع الباحثة أن قبيلة بني عثمان تشاركت في أنشطة تجارية مع اليونانيين المحليين في بورصة، وفي غضون عقود قليلة بعد ضم بورصة -وبالتحديد في أواخر القرن 14 الميلادي- كانت سوق بورصة معروفة كسوق عالمية تضم بضائع الشرق والغرب، وبشكل خاص الحرير الخام والسلع الآسيوية الأخرى، مما غيَّر من طرق التجارة المعتادة وجعل العاصمة العثمانية الأولى قبلة تجارية بسوقها المكوّن من خانات عديدة وسوق مغطى.
وقدمت السيطرة العثمانية على طرق الحرير الأناضولية رأس مال مربح للعثمانيين، وسارت قوافل التجار بين تبريز وإيطاليا عبر المدن العثمانية في الأناضول مثل قونية، لتنقل الحرير للنخب الأوروبية الحاكمة التي كانت تطلب الأقمشة الفاخرة بشكل متزايد.
وفي حين حاول أورهان اجتذاب تجار جنوى الإيطالية لجذب تدفق التجارة الدولية إلى العاصمة العثمانية، سعى حفيده بايزيد زيد الأول (المعروف بالصاعقة 1389-1402) إلى إيجاد طرق للسيطرة على التجارة الآسيوية في آسيا الصغرى في العقود التالية. وضمت المراكز الرئيسية لطريق الحرير مدن أناضولية مثل أنقرة وأماسيا وأرضروم، وازدهر طريق تبريز-قونيا الواصل إلى سواحل إفسس ومينائها على بحر إيجه في غرب الأناضول.
وأدت المنافسة على السيطرة على طريق الحرير في الأناضول إلى معركة أنقرة عام 1402 للميلاد، عندما هزم جيش التتار بقيادة تيمور لنك جيوش السلطان العثماني بايزيد. وأدت هزيمة بايزيد الأول في أنقرة إلى خلو العرش لمدة 11 عاما ، لكن السيطرة التيمورية على الأراضي العثمانية وعلى طريق الحرير في آسيا الصغرى كانت مؤقتة، إذ استعاد العثمانيون سلطتهم وكذلك الأراضي المفقودة في عهد محمد الأول (1413-1421) ومراد الثاني (منتصف القرن 15 الميلادي)، بينما ختم السلطان سليم الأول الجولة الثانية من المنافسة على طريق الحرير عندما احتل تبريز لأول مرة عام 1514.
التجارة والسياسة الإمبراطورية
ورغم أن مؤرخ القرن 15 عاشق باشا زاده (1400-1484) أشار إلى أمية السلطانين عثمان وأورهان، لكنهما -بحسب الباحثة- لم يكونا مجرد قائدين عسكريين من أصول قبلية، بل كانا مدركين لأهمية التجارة في تعزيز الولاءات المحلية، وحرصا على بناء مجمع تجاري وسوق متطور في ذلك العصر، وربطه بتنظيمات اجتماعية حضرية في بورصة.
وفي تحليله لهذه التحولات، قام المستشرق والأنثروبولوجي بول ليندنر بتفسير نجاح العثمانيين الأوائل “كقبيلة بدوية ومجتمع حدودي”، بالنظر إليهم كمجموعة اجتماعية شاملة؛ ويقول “لقد اعتادوا على مقابلة أشخاص من أصول عرقية ودينية متنوعة، من الإغريق إلى اليهود، ومن التتار إلى المنغوليين والفرس”، وأدت مصالحهم المشتركة مع القوى المحلية الأخرى -مثل النبلاء البيزنطيين في شمال غرب الأناضول- إلى تشكيل تحالفات، بحسب دراسة ليندنر “العثمانيين وبدو الأناضول في القرون الوسطى”.
وبحسب الباحثة، كانت بورصة -إلى جانب كونها مدينة عثمانية- مدينة “إسلامية” نموذجية، بمعنى أن هيكلها الحضري يعكس الاهتمام بالتمييز بين القطاعين العام والخاص. فالعام هو مركز المدينة والسوق، وهناك الأوقاف التي استضافت الطلاب والفقراء والمسافرين (عابري السبيل)، وفي القلب الجامع والسوق، بينما الأحياء السكنية لها خصوصية خارج المركز.
وكمجتمع بدوي استقر مؤخرا، أظهر العثمانيون تقدما بارزا في تحويل المدينة إلى واحدة من المدن التجارية الكبرى والمراكز الصناعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفي إرساء أسس الثقافة الحضرية القوية في المدينة، مما أسهم في التحول العثماني المبكر من نموذج قبيلة بدوية إلى إمبراطورية عالمية.
ودرس العديد من المؤرخين هذا التحول في سياقات مثل دور اتحاد الحرفيين والتجار والأخويات في بناء الدولة العثمانية، وهو ما تؤكده روايات رحلات ابن بطوطة الذي أشار للدور النشط للأخويات في التنظيم الاجتماعي وإعادة بناء المدينة في عهد أورهان.
وأظهرت سجلات الضرائب القديمة في بورصة أن الخطوط الفاصلة بين المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية لم تكن صارمة للغاية، حيث إن العديد من مناطق المدينة كانت تستضيف مجموعات مختلطة من المسلمين وغير المسلمين، ووصفها الرحالة العربي ابن بطوطة في كتابه “رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار”، قائلا “مدينة كبيرة عظيمة، حسنة الأسواق فسيحة الشوارع، تحفها البساتين من جميع جهاتها والعيون الجارية، وبخارجها نهر شديد الحرارة يصب في بركة عظيمة”.
وتركز الدراسة كذلك على دور نقابات الحرفيين ومحاكم التقاضي في الدفاع عن مصالح الحرفيين وأصحاب المهن على أسس من قوانين عرفية سميت “القانون القديم”، ودُرس هذا الدور من قبل مؤرخين باعتباره هيئة وسيطة بين تجار البازار والحرفيين، وبين الدولة العثمانية في مقابل أطروحات المستشرقين التي تركز على سيطرة الحكومة المركزية العثمانية على الحياة العامة، وترى الباحثة أن الشكاوى المتعلقة بانتهاك قوانين النقابات العرفية، غالبا ما أسفرت عن حماية مصالح أعضاء النقابة من ناحية، وأسهمت في تكوين القانون العثماني من أسفل بما يراعي مصالح الطبقات الدنيا، من ناحية أخرى.
وتخلص الباحثة إلى أن تاريخ المدن العثمانية كان “مختلفا” بطبيعة الحال عن تاريخ الغرب، فنظام الحكم العثماني والنظام الاجتماعي بني على أساس المؤسسات الإسلامية والقوانين العرفية، وعلى موروثات الحضارات السابقة، بدءا من العصر اليوناني الروماني والسلاجقة، وحتى القرون الوسطى وإمارات الأناضول.
ومع ذلك، فإن الاختلافات لا تعني أن نظم الشرق الإسلامي افتقرت لآليات التنظيم الاجتماعي والسياسي والقانوني الذي خلق فرصا للطبقات غير الحاكمة في صياغة القانون وعمليات صنع القرار، مثلما يبرز في دراسة التاريخ الاجتماعي القديم لمدينة بورصة.