لأن كتاب عنف الحرب لا ينتهي، فقد أضاف إليه الكاتب الفرنسي إيمانويل دروا فصلا جديدا في كتاب خصصه لبلدة دمين (230 كيلومترا شمال برلين)، حيث انتحر ما يناهز ألفا من السكان بين يومي 30 أبريل/نيسان والرابع من مايو/أيار 1945، عندما وصل الجيش الأحمر السوفياتي، في حالة فريدة من نوعها رغم أنها كانت في فترة تميزت بأسوأ المآسي.
وقالت مجلة لوبوان (Le Point) الفرنسية إن أكثر من ألف ألماني أنهوا حياتهم في يومين في أوائل مايو/أيار 1945، حيث ذهب معظمهم -وهم من النساء وكبار السن والأطفال- ليغرقوا في أحد الأنهار الثلاثة التي تعبر هذه المدينة، التي يبلغ عدد سكانها 20 ألف نسمة، في حين قطع آخرون أوردتهم أو شنقوا أنفسهم.
وحاول فرانسوا غيوم لورين في تقريره للمجلة، تفسير هذا الانتحار الجماعي الأهم في الحرب العالمية الثانية، فجمع كثيرا من الحجج كالدعاية النازية، مثل ما ظل يكرره وزير الدعاية جوزيف غوبلز ومساعدوه عن تطرف الحرب الشاملة في الأشهر الأخيرة، إضافة إلى التعليمات الصارمة “الانتصار أو الموت”، إضافة إلى التركيز المرعب على المذبحة التي ارتكبها السوفيات قبل بضعة أشهر في قرية نيمرسدورف (شرقي بروسيا).
وكانت خشية الانتقام مهيمنة على السكان المقتنعين بأن الجيش الأحمر المعروف بكراهيته الطبيعية ووحشيته، لم يأت بنية حسنة، بل جاء مدفوعا بالرغبة في الاستيلاء على “الغنيمة من النساء والفتيات الألمانيات وقتل الفاشيين”، رغم أن توجيهات عسكرية صدرت لثنيه عن سياسة الانتقام، خاصة أن جنود ألمانيا النازية اتبعوا في البلاد السوفياتية سياسة الإبادة والأرض المحروقة، كما تقول المجلة.
ديناميات العنف
وأشار تقرير المجلة إلى أن هذه الدوافع العامة تنطبق على كامل الأراضي الألمانية التي غزاها السوفيات، إلا أن حالات الانتحار العديدة التي حدثت خلال الأسابيع الأخيرة من الحرب لا تكاد تتجاوز تلك الموثقة التي تعود لكبار الشخصيات في النظام الذين رفضوا البقاء على قيد الحياة، أما في ما سوى ذلك فلم يتم الإبلاغ عن مثل هذا الانتحار الجماعي في أي مكان آخر، بل كانت الإستراتيجية في كثير من الأحيان هي الفرار والنزوح إلى الغرب، بعيدا عن القوات السوفياتية.
أما انتحار دمين الجماعي فهو مثال جيد للتاريخ المصغر لكونه مبنيّا على خصوصيات الحدث وعلى ظروفه الدقيقة، خاصة أنه من بين أغلب حالات الانتحار لم يلاحظ أي دافع أيديولوجي، بل يرى دروا أن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو تخلي النخب والسياسيين ثم الجيش والشرطة عن السكان، حين فروا مدمرين الجسور وتركوا المواطنين عالقين، كأنهم يسلمونهم بلا أمل إلى عنف السوفيات، وبالتالي كانت هذه الخيانة -التي تناقض كل الخطب الدعائية- ضربة مروعة لمعنويات المواطنين العاديين.
انهيار كامل
وتساءل الكاتب: كيف يمكن تفسير تحول السوفيات إلى عنف لا يصدق، يكون بدوره سببا في سلسلة من ردود الفعل اليائسة لدى الطرف الآخر، بعد أن كان التواصل في اللحظات الأولى سلميا نسبيا؟ ليوضح أن الروس في اليوم الأول كانوا مكتفين بسرقة الساعات، إلا أنهم في الليلة الفاصلة بين 30 أبريل/نيسان والأول من مايو/أيار1945 بدؤوا يسكرون ويحتفلون بغزو المدينة وبدأ الاغتصاب وإشعال الحرائق، خاصة أن الخوف من القتل في بلد العدو والكحول زادهم عنفا.
أما الألمان من جانبهم -كما تقول المجلة- فقد لجؤوا إلى أقبيتهم، إلا أن الانتحار الذي لم يكن سوى “خيار بعيد” في بلد في حالة تدهور كامل، أصبح فجأة في غضون ساعات قليلة السبيل الوحيد للخروج من موقف يبدو ميؤوسا منه بعد أن انهارت كل أركان المجتمع.
وختم التقرير بأن عقوبة بلدة دمين اكتملت بدمجها في جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشيوعية، مما جعلها غير قادرة على تخليد ذكرى ضحاياها قبل التسعينيات، ليستعيد اليمين المتطرف هذه الذكرى بعد سقوط جدار برلين، رافضا اعتبار مايو/أيار 1945 بمثابة لحظة التحرير حسب الخطاب الرسمي في ألمانيا.