في جلسة مسائية على الشاطئ وخلال جولة بين أغانينا المفضلة، اختار صديقنا التونسي أغنية “يا مليح القد” للفنانة المعلومة بنت الميداح. أتى صوتها عبر مكبر الصوت وهي تصدح “جئت تخطو في حياء ودلال وخفر.. جئت والأهداب غطت حورا يسبي الحور..  يا مليح القَد مهلا إنما الناس بشر”، بعربية فصيحة ولحن رائق وصوت غاية في العذوبة. استمعنا إليها وسط حالة من الصمت والمتعة، وفور انتهائها من الغناء تساءلنا كيف أنها المرة الأولى التي نستمع فيها إلى هذا الصوت؟

في اليوم التالي بدأت بحثًا عنها، فاكتشفت أنها ابنة عائلة فنية كما هي العادة في موريتانيا، حيث يتوارثون العزف والغناء في عائلات محددة. فهي ابنة الفنان المختار ولد الميداح، ووالدتها عائشة بنت الببان فنانة أيضا، لكنني وجدت أنها لم تكن مجرد سيدة تمتلك صوتًا جميلًا، بل سياسية ومعارضة وأول فنانة تكون عضوة في مجلس الشيوخ وسفيرة بيئية وحاصلة على كثير من الجوائز والتكريمات عربيًا ودوليًا. إذن، لماذا لم ينتشر غناؤها من قبل في مصر ولبنان وفلسطين وغيرها من بلاد الشرق العربي؟

 

فنانة وسياسية معارضة

عبر محركات البحث، وجدتها في مقطع مصور تعتلي مسرح مهرجان قرطاج وسط جمهور عريض. شابة تتحرك برصانة وحيوية بلباسها الموريتاني المميز وصوتها الرنان، تشدو بدلال “جيتو لأول مرة.. مريضة منحرة.. وضحكلي بالمرة.. كيف اللي سريتو.. واللي قط اشكيتو.. من الأمراض نسيتو…طبيبي حبيتو.. حبيبي حبيتو”، بينما يتفاعل معها الجمهور التونسي بحرارة، وكأنها استحوذت على كل طاقتهم وإعجابهم. لم يكن هذا قبل أيام بل منتصف الثمانينيات، وقتها كان من الصعب أن تشارك فنانة موريتانية في مهرجان دولي، والأكثر فرادة أن تغني بعيدة عن “الهول”، وهو الشكل التقليدي للغناء الموريتاني ومقاماته الموسيقية المحددة، ومن دون العزف على “آردين”، تلك الآلة الموسيقية المخصصة للنساء.

منذ ذلك اليوم، وأغانيها ترافقني في كل جلسات السمر، أقترحها على من يريد الاستمتاع بلون مختلف عما نعرفه في بلادنا، أختارها لتشاركني طريقي إلى العمل، أتنقل بين غنائها بالعربية الفصحى والحسانية التي تضفي عليها هي إحساسًا رائعًا لا تشعر معه بالغربة، بل المتعة في اكتشاف المعنى.

في زيارتي الأولى إلى موريتانيا، كانت المعلومة منت الميداح الشخص الوحيد الذي أتوق إلى لقائه. حصل لي زميلي على موعد معها بسهولة، وكانت لحظة سعادة حقيقة تلك التي طرقت فيها باب بيتها.

ببساطة غير مألوفة عند المشاهير، استقبلتنا عند باب بيتها في العاصمة الموريتانية نواكشوط، بابتسامة تعلو ثغرها وترحاب يليق بكرم الموريتانيين. أدخلتنا بيتها أنا وزميلي وابنة صديقتي، تلك الشابة العشرينية التي طلبت مرافقتي لعشقها أغاني المعلومة، وهي الفتاة التي ولدت وتربت في فرنسا، ورغم ذلك فإنها تحفظ كثيرا من أغاني المعلومة من بداياتها حتى ألبومها الأخير “اكنو”.

كان ترحيبها حارا، أخلجتني بتواضعها ومديحها لمصر وأهلها، معلنة تأثرها الكبير بالفن المصري ونجومه وعلى رأسهم عبد الحليم حافظ. وكان هذا خيط البداية، سألتها:

لماذا هذا الغياب عن مصر ولبنان وكل منهما محطة فنية مهمة كما حدث مع كثير من الفنانات المغاربة؟

بابتسامة تغالب الدموع التي داهمتها وهي تحكي عن عبد الحليم حافظ وعشقها لهذا الفنان المجدد في عهده، قالت:

كنت أتمنى الغناء في مصر وسافرت إليها في بداية الثمانينيات، بعد أن استمع إليّ عبد الرحمن الأبنودي في حفل بتونس، وحضرت مقابلة على التلفزيون المصري، وغنيت في أحد فنادق القاهرة، وكان نقيب الموسيقيين وقتها أحمد فؤاد حسن، وكنت في غاية الإعجاب به، لأنه لحن كثيرا من أغاني عبد الحليم، وكنت متشوقة للقائه والتعرف عليه، فلما دخلت عليه لم يكن يعرف موريتانيا أو أن بها فنانات، وأوكل الأمر إلى مدير مكتبه الذي لم يتعاون، وكل ما قوبلت به هو مطالبتي بضريبة لأنني قدمت حفلا من دون إذن النقابة. ثم رشحت للغناء مع الفنان محمد منير ولكن بشرط الغناء باللهجة المصرية، ومن كلمات وتلحين آخرين، فرفضت المشاركة لأنني لن أغني باللهجة المصرية أفضل من الفنانات المصريات، كما أنني مصرة على تقديم الفن الموريتاني على طريقتي الخاصة. تواصلت وقتها مع السفارة الموريتانية في مصر، وتم حل المشكلة وسافرت إلى بلدي ولم أعد من وقتها.

وما حدث في مصر تكرر في لبنان، حيث تمت دعوتي للمشاركة مع شركة إنتاج فني كبيرة بالمشاركة مع إلياس رحباني، وكان مستشارهم الموسيقى وقتها، وأسمعته 3 أغنيات منها أغنية “طيور الورد”، وبعدما استمع إليها قال لي هذا لحن أميركي. هل هذه أغنية مترجمة؟ فأوضحت له أنها من تلحيني وكتبها شاعر موريتاني، وشرحت له طبيعة المقامات في الموسيقى الموريتانية، وقربها من موسيقى البلوز الغربية. ورغم إعجابه بصوتي، فإن الشركة قالت إن شروطها للتعاون معي أن يكتب الكلمات شعراء لبنانيون ويلحنها إلياس رحباني، فلم يكن لدي خيار إلا الرفض لاقتناعي بخصوصيتي في اللون الفني الذي أقدمه، وهو غير منتشر.

وشاركتني في الرأي الفنانة القديرة فيروز التي أعشقها وسنحت لي الفرصة لمقابلتها في لبنان، وكان لقاءً متميزًا جدًا بالنسبة لي، وقالت لي وقتها إنني أقدم فنًا مختلفًا، ونصحتني بالحفاظ على لوني وغنائي. وكتب الصحفي زاهي وهبي في زهرة الخليج وقتها “إلياس رحباني حرم اللبنانيين من صوت المعلومة”.

 

دعينا نرجع قليلا للبداية، مع تقديمك “حبيبي حبيتو”، كنت قد اخترت لونًا فريدًا في موريتانيا، فلماذا؟

منذ طفولتي وأنا متمردة. وأنا صغيرة كنت أرفض مديح عائلتي لشيخ القبيلة، وبعدما أتقنت العزف على الآردين في العاشرة من عمري بعد أن تعلمت من أمي وخالاتي وصديقاتها، وإتقان أصول فن الهول من والدي؛ بدأت أفكر في تقديم الغناء بشكل مختلف، فكتبت الأغاني بنفسي وكانت أفكارها مختلفة عن السائد وقتها، فكانت للفقراء وعن المرأة والمشكلات الزوجية والمعارضة السياسية وحقوق الأقليات. وأصررت أن تكون الأغنية حكاية، وكانت “حبيبي حبيتو” واحدة من تلك الأغاني التي لاقت رواجًا في مهرجان قرطاج لموضوعها الجديد ولحنها.

وقوبلت بالرفض والاتهام بالجنون وقتها، ولكنني لم أكن أفعل ذلك لمجرد التجربة بل كان عندي هدف، وهو إيصال الفن الموريتاني خارج حدود بلادي وألا يظل محليًا؛ ولهذا انطلقت بعد تشربي للأصول، إذ لا يمكن الإبداع من دون فهم القواعد. وقد وجدت طريقي إلى كثير من الدول كتونس وفرنسا والجزائر وغيرها من الدول التي رحبت باللون الذي أقدمه.

التمرد لم يكن طريقك في الفن وحده بل في السياسة أيضًا، فما الذي دفعك لعالم السياسة، وكيف صرت أول نائبة من الفنانين في مجلس الشيوخ؟

شعرت أن المعارضة تستهويني، وهي أقرب لأفكاري، وكانت أغنية “حبيب الشعب” للسياسي أحمد ولد داده هي البداية، وقد انتشرت حتى أن الرئيس معاوية ولد الطايع جمع الفنانين ليسألهم لماذا نجحت فنانة واحدة في التأثير في الناس وأطاحت بكفتكم جميعًا؟

كما انتشرت أغنية أخرى كنت أقول فيها “عازم وأتحدى اليوم الشعب، حتم ولا بد من مكسب، حرية، ما هي لف ولعب، الشعب تعب والعيشة تصعب، حس أنه في وطنه متغرب”، عندما ظهرت شعر الناس بكلامها واعتبروها خير معبّر عن آمالهم في التغيير.

وقتها حاولت الحكومة جاهدة خطفي من المعارضة للاستفادة من انتشار الأغاني وتعلق الناس بها، ولكنها فشلت.

حتى رحلتي مع المعارضة لم تكن سهلة، فهم أنفسهم حاولوا الاستفادة مني، ورغم تضحياتي الطويلة معهم فإنهم ظلوا يعاملونني كواحدة من “إيجاون” (طبقة الفنانين)، ووقتها طالب شباب المعارضة في ذلك الوقت بترشيحي لمجلس النواب، واعترض الكبار، فقررت رفض الغناء في حملتهم الانتخابية، وأخبرتهم: لو أردتم أغنية فعليكم أن تدفعوا مقابلها إن كنت في نظركم مجرد فنانة، فاشتكوا لأحمد ولد داده زعيم المعارضة وقتها، وجاءني يسأل عن سبب رفضي الغناء، وصارحته بالواقع ففهم ما كنت أرمي إليه، وهو غضبي من هذا التعامل بعد مسيرتي الطويلة معهم، فقال إنه سيرشحني لمجلس الشيوخ، وأقر وقتها أن الشيوخ أكبر مكانة من النواب، ورد اعتباري.

بعد مشاركتك لدورتين في المجلس كيف تقيمين تجربتك ؟

طوال وجودي في مجلس الشيوخ كنت نبض الشارع وصوت الفقراء والأقليات، والحمد لله لم أوافق على شيء ضد مبادئي، حتى جاء ملف تعديل الدستور الذي طالب به الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، وكان يستهدف منه إعادة انتخابه مرة أخرى، وكنت على رأس الرافضين له فتم إلغاء المجلس، وشنت حملات إعلامية ضدي أنا وأسرتي، فتمت محاصرتي وأبنائي في الدراسة والعمل والفن، وحتى الآن لا يوجد صحافي موريتاني رسمي مسموح له باستضافتي. وما زلت أدفع ثمن هذه المعارضة.

ما رأيك كامرأة في واقع المرأة الموريتانية ومكتسباتها؟

ما يقال دومًا أن المرأة في بلادنا لديها ميزات كثيرة هو جزء من الصورة، ولكن بقية المشهد لا تروى، فالمرأة التي تحصل على حرية الطلاق مثلًا لا تشعر بالاستقرار، فنجد أنها لا تنظر للرجل باعتباره وطنًا بل ضيفًا راحلًا، والرجل مثلها يعرف أن الأمر يمكن أن ينتهي لأي سبب، لذا لا يثق في العلاقة ويعرفان كلاهما أن المجتمع لن يستنكر ذلك.

كما أنه مطلوب منها أن تدخل في المظاهر المجتمعية اليومية في كل تفصيلة في حياتها، فمهما كانت ظروفها المادية متواضعة فالهدايا ضرورة في المناسبات التي لا تنتهي والتي تحدد مكانتها وتقديرها، إذن هي حرية منقوصة وكثيرًا ما تؤثر على بيتها وأبنائها.

بالعودة للفن، حدثينا عن تلك الأغنية التي تدرس في جامعة كندية، وما علاقتها بكونك سفيرة للبيئة؟

سهول تحرق دخان كثيف

غزال يعلق في شرك مخيف

نيران تطلق رحيل طيور

كفانا تدمير كفانا تلويث..  زعمنا التعمير فهل من مغيث

كتبت هذه الكلمات رغبة مني في التأكيد على أهمية الحفاظ على الطبيعة، ونزلت في ألبومي الأخير”اكنو” عام 2014، وبعد عدة أشهر هاتفني مدير جامعة كندية يستأذن في تدريس الأغنية لطلابه، لأن كلماتها مفيدة جدا، تعجبت وقتها، وهذا دليل على أن الفن الحقيقي يصل للناس حتى مع اختلاف اللغة والموسيقى، فما الذي يجعل مدير جامعة كندية مهتما بأغنية ألفتها موريتانية بلكنتها الحسانية التي ربما لم يسمعها في حياته؟

ما جديد المعلومة على الساحة الفنية؟

أعمل على الانتهاء من عدد من الأغاني حاليا لإصدارها في ألبوم قريبا إن شاء الله. وسعيت في هذا العمل إلى الغناء بكل لهجات موريتانيا، فعندي أغنية بالأمازيغية وأخرى بالبولارية والسنوكية وأغنية بالعربية الفصحى، وهذه هي تركيبة المجتمع الموريتاني كاملا. وأتمنى أن نتوحد كما سيحدث في هذا الألبوم.

***

بعد ساعتين من الحديث الممتع، مشينا في ردهة منزلها، وكانت الغرفة المقابلة لباب البيت هي متحفها الموسيقي الصغير، كما أطلقت عليه تحتفظ فيها بكثير من الصور المعلقة على الحائط لأشهر الفنانات بكل أطياف الموسيقى، كما يحتل الجزء السفلي من الغرفة آلات عزف متنوعة، ويقبع هناك أقصى اليمين أول “آردين” تعلمت العزف عليه.

انتقلت بهدوء تستعرض سنوات عمرها من آلة إلى أخرى، وتشير على الحائط إلى فنانات ساهمن في تطوير موهبتها الفنية وسبقنها في محاولة تقديم الجديد على الساحة الغنائية، ولكنهن بقين في الإطار المحلي، بينما حققت هي نجاحًا كبيرًا إلى أن وصلت إلى صورة أخيها الحضرمي الذي عزت إليه الفضل في تشجيعها وتجديد الموسيقى، وبجواره صورة لأبيها الذي أورثها الفن وأصوله وأمها وصولا إلى جدتها.

حملت الآردين وجلسنا على أريكة قريبة، وسألتني عما أريد الاستماع إليه، شكرتها على كرمها وطلبت الاستماع إلى “يا حبيبي”. برشاقة حركت أصابعها متأرجحة بين أوتار آلتها الاثني عشر، وبدأت بشور موريتاني قديم كما هو معروف في الغناء، ثم صدحت “يا حبيبي يا ملاكي كيف أصبحت بعيدا.. عن عيوني عن فؤادي عن شجوني يا وحيدا”.

انتهت الأغنية، وأسمعتنا بعدها “صبوا كاس”، ثم “يا مليح القد”، وطالت جلسة الإمتاع وأرخى الليل ظلامه مؤذنًا بالرحيل، ورغم المتعة ما كان منا إلا الاستئذان والمضي بعد هذه الجرعة من الفن والإبداع.