في عالم اليوم يبدو أن الخطوط الفاصلة بين أوروبا والشرق الأوسط، بين المسيحيين الأوروبيين والمهاجرين المسلمين، تصبح أكثر تشددًا؛ إذ تقارن افتتاحيات الصحف التحذيرية وصول اللاجئين المسلمين إلى أوروبا بـ”الفتح الإسلامي عام 711″، محذرة من أن أوروبا ينبغي أن تدافع عن حدودها.
وفي محاولة للسباحة ضد هذا النزعة المعادية للأجانب، يدرس أكاديمي أميركي “الشعور بالتاريخ” بتتبع طيف الأندلس المعاصر إذ يرى أن “الحس الأندلسي” مرتبط بطرائق متعددة مع أيبيريا الإسلامية في العصور الوسطى.
ويُعدّ البروفيسور تشارلز هيرشكايند (Charles Hirschkind)، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كاليفورنيا بيركلي، أحد الأنثروبولوجيين الكبار إذ تشمل اهتماماته البحثية الممارسات الدينية والأشكال الناشئة للمجتمع السياسي في الشرق الأوسط وأميركا الشمالية.
وأسهم في تحرير كتب من بينها كتاب “صلاحيات العلماني الحديث: طلال أسد ومحاوروه” (Powers of the secular modern: Talal Asad and his interlocutors) الصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد، كما أصدر كتابا بعنوان “الصوتيات الأخلاقية: خطب الكاسيت والجماهير الإسلامية المضادة” (The ethical soundscape: cassette sermons and Islamic counterpublics) عن مطبعة جامعة كولومبيا.
وكذلك الكتاب الذي يسلط عليه الضوء حوار الجزيرة نت، بعنوان “الشعور بالتاريخ: الإسلام والرومانسية والأندلس” ( The Feeling of History: Islam, Romanticism, and Andalusia)، الصادر عن مطبعة جامعة شيكاغو سنة 2021، ويجسد محاولة لفهم “النزعة الأندلسية” بالدخول في عالم الأندلس الأدبي والجمالي والتراثي وتلمس أثره في الواقع المعاصر؛ ولأجل المزيد أترككم مع الحوار.
أنت محق في أن الدول القومية الحديثة تقوم بإكراه قوي في اتجاه تحديد الحيز الجغرافي المشترك داخل حدود الأمة؛ وهو ما يشمل تحديد تاريخ مشترك ولغة مشتركة، ودين مشترك، وثقافة مشتركة وكذا نبذ الاختلافات التي يُنظر إليها على أنها تهدد تماسك الأمة، ومع ذلك؛ هناك أيضًا سرديات عن الهوية والتقارب لا تتوافق مع الدولة القومية؛ فكر في الطريقة التي يشعر بها كثير من الأميركيين الأفارقة بالارتباط القوي بأفريقيا، فهم يرون أفريقيا تجسد جزءا من ذواتهم جغرافيًا وتاريخيًا، على الرغم من عدم وجودهم هناك مطلقًا، كما يمكنك النظر إلى الطريقة التي يفهم بها كثير من الناس من جميع أنحاء أوروبا اليوم (وإن لم يكن جميعهم بالتأكيد) أنهم مرتبطون معًا بحضارة مشتركة، على الرغم من أنهم في السابق كانوا ينظرون إلى بعضهم بعضا كما لو أنهم أعداء لدودون.
فالنزعة الأندلسية (Andalusismo) الموجودة في التراث الإسباني التي أركز عليها في الكتاب أُسست على وجهة النظر القائلة إن الأندلس المعاصرة -إقليم إداري يقع في جنوب إسبانيا- (وبالتبعية إسبانيا وأوروبا) مرتبطة بطرائق مهمة جدا مع الأندلس في العصور الوسطى وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وإن التحديات التي يواجهها الأندلسيون اليوم (والأوروبيون بنحو أوسع) تتطلب الاعتراف بهذه الهوية التاريخية المستمرة، إذ يشعر أولئك الذين يؤمنون بهذا التراث بألفة تجاه المجتمعات الموجودة على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، وهذا الشعور بالتقارب يشكل أخلاقياتهم وسياساتهم، والطريقة التي ينظمون بها حياتهم.
رأى خيل بن أمية الدول العربية حلفاء طبيعيين لإسبانيا، يوحدهم تاريخ مشترك وميراث يعود إلى الأندلس؛ لقد فهم دعمه للقومية العربية والإسلامية على أنها نتيجة طبيعية لهذه العلاقة التاريخية، وفي بداية حياته المهنية اعتقد أن برنامج فرانكو (حكم بلاده من 1939 إلى 1975) السياسي قد يكون وسيلة لدعم وتعزيز حركة النهضة التي تحدث في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ومع مرور الوقت أدرك أن سياسات فرانكو في المنطقة كانت موجهة للحفاظ على الهيمنة الإسبانية.
وبتحديد موقع الأندلس أصلا بديلا لحاضرنا، تتبع خيل بن أمية الجغرافيا السياسية التي ربطت إسبانيا ليس فقط بالشرق الأوسط بل أيضًا بأميركا اللاتينية، وذلك بسبب الاستعمار الإسباني للمنطقة؛ إذ رأى تأكيدًا معاصرًا للإرث الإسباني العربي في أميركا اللاتينية في مكانة العرب في السياسة والتجارة داخلها. وفي جزء من حياته المهنية راسل شخصيات عربية بارزة مقيمة في أميركا اللاتينية من أجل تعزيز وعيهم بهذه الروابط التاريخية واستكشاف إمكاناتهم السياسية لذلك؛ يمكننا القول إن الجغرافيا المتصورة لخيل بن أمية كانت ضربًا من ضروب الخيال، أي غير مؤسسة على الحقائق السياسية ومع ذلك؛ من المثير للاهتمام أن نلاحظ أنه في عام 1945، أي عند تأسيس جامعة الدول العربية طرح اسم خيل بن أمية مرشحا محتملا لمنصب ممثل أميركا اللاتينية داخل الجامعة مع أنه لم يكن من أميركا اللاتينية ولا من الدول العربية.
لذلك؛ على الأقل في نظر بعض مؤسسي جامعة الدول العربية، أعطت حياة خيل بن أمية تجسيدًا ملموسًا لمفهوم الحضارة العربية الإسبانية التي تعود أصولها إلى الأندلس، بحيث يمكنهم تخيله مندوبا شرعيا لذلك الهيكل.
تمامًا، رأى فرانكو النزعة الأندلسية أداة لتوسيع سلطة النظام الفاشي واستغلها لهذا الغرض، واليوم يتبنى ذلك التراث الناشطون متعددو الثقافات الذين يعملون على دعم حقوق المهاجرين، لكن من الخطأ -من وجهة نظري- اختزال هذا التراث في توظيفاته السياسية وتفسيراتها؛ فالنزعة الأندلسية تراث حديث يتيح التفكير النقدي في معايير السياسة والثقافة الأوروبية على أساس التقدير المزروع لتاريخ المجتمعات الإسلامية واليهودية وتراثها في جنوب أيبيريا، ومن ثم؛ فإن ما يشترك فيه الأندلسيون ليس توجهًا سياسيًا مشتركًا بل هو إصرار على أن الإرث التاريخي للأندلس يجب أن يكون الأرضية التي ينبغي النظر من خلالها إلى مشكلات وتحديات الحاضر وتقييمها وعيشها.
ينظر معظم المؤرخين في إسبانيا في العصور الوسطى إلى النزعة الأندلسية على أنها مسلك غير موثوق به ومشوّه للمعرفة، وطريقة يغبش عليها الشغف من ناحية ارتباطها بموضوع تفكيرها، ومن ثم فهي غير قادرة على إدراك عدم أهمية الماضي الأندلسي في الحياة المعاصرة، ففي نظر كثيرين؛ إن خطابات النزعة الأندلسية ليست سوى تخيل رومانسي للماضي، وهو ما يشار إليه أحيانًا باسم “التاريخ المخترع”؛ لذلك ظل التراث دائمًا هامشيًا لنظام التاريخ وأشكال السلطة فيه، ولأنه يتحدى بعض الافتراضات الأساسية التي تدعم مفهوم أوروبا، فهو أيضًا هامشي في ما يتعلق بالخطابات المهيمنة (التاريخية والثقافية والسياسية والدينية) المتعلقة بالهوية الأوروبية.
إن الجغرافيا والتاريخ اللذين أنتجهما الأندلسيون يتماشيان على نحو غير متناغم مع المعرفة التاريخية والسياسية التي تدعم فكرة أوروبا.
يكتشف الأندلسيون الذين يعيشون على أطراف أوروبا ويقطنون ذلك الإقليم الخلاب بلغته التي طُبعت بقرون من الوجود الإسلامي، أنهم ليسوا تمامًا الرعايا المطهرين لإسبانيا الكاثوليكية التي أخبرهم المؤرخون أن حياتهم متشابكة معها. يصعب تقييم وتوضيح إرث السكان اليهود والمسلمين على الأراضي الأيبيرية، لا سيما بالنظر إلى حقيقة أن معظم تاريخ إسبانيا الحديثة هذا قد بُني على محو و/أو إنكار تلك الموروثات.
ويمكننا القول إنهم يجدون أنفسهم مسكونين بالأندلس وبطرق الهوية الاجتماعية والسياسية التي فهموا أنفسهم من خلالها، النزعة الأندلسية تخرج من هذا الارتباك في ما يتعلق بمسألة وظيفتها. في رأيي هذا الشيء تجيب عنه التجربة فقط، فضلا عن أن هناك الكثير عن الحياة السياسية الأوروبية الأميركية الحالية التي تبدو غير فعالة إلى حد كبير، ومع ذلك لا يبدو أن هناك عائقا أمامها.
في أثناء القرن الـ20 وضع شعراء مثل فيديريكو غارثيا لوركا (1898-1936) وكثير من الفنانين والكتاب طابعًا من الحنين إلى غرناطة في كتاباتهم، وذلك كونها مدينة عظيمة عانى سكانها المسلمون واليهود عقوبة النفي أو الموت؛ هذا الطابع الحزين في نظري ليس منفذًا للهرب للرومانسيين المعاصرين، لكنه طريقة لإبقاء آلام الماضي وخسائره حية، كقوة نشطة ومحركة في الحاضر؛ وبهذه الوسيلة، لا يَنْزل الماضي الأندلسي إلى المتحف، بل يصبح جزءًا لا يتجزأ من الطريقة التي تتم بها مواجهة الحاضر والشعور به والاستجابة له.