لم يبدع موسيقار عربي في تلحين القصيدة الفصحى العربية مثلما فعل رياض السنباطي، فقدم أشهر أغاني أم كلثوم التي كتبها كبار شعراء القرن الـ20 مثل أحمد شوقي وأحمد رامي وإبراهيم ناجي، تاركا بصمات لا تُمحى في تاريخ الموسيقى العربية.

من فارسكور إلى القاهرة

ولد السنباطي في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1906 في مدينة فارسكور في دمياط (شمالي مصر)، شغف بالموسيقى والغناء منذ الصغر، وأصيب بمرض في عينه في التاسعة من عمره دفعه إلى ترك الدراسة، فانطلق مع والده، الذي يعمل منشدا، لحضور الموالد والأفراح والأعياد في القرى والبلاد المجاورة.

انتقل إلى مدينة المنصورة حيث تعلم قواعد الموسيقى، واحترف العزف وصار نجما لفرقته وعرف باسم “بلبل المنصورة”، والتقى الشيخ سيد درويش الذي أراد أن يضمّه لفرقته في الإسكندرية، لكن والده رفض لحاجته إليه في فرقته.

انتقل الأب مع نجله الموهوب إلى القاهرة عام 1928، تيمّنا بأم كلثوم التي كان والدها صديقا له، والتحق السنباطي بمعهد الموسيقى العربية، حيث أثار ذهول أساتذته وقرروا تعيينه أستاذا لآلة العود والأداء بالمعهد، وذاع صيته في ندوات وحفلات المعهد واشتُهر بعزفه المميز، يقول السنباطي “كانت معلومات العزف على آلة العود التي لدي، والتي تعلمتها من والدي أكثر بكثير من معلومات الأساتذة في المعهد”.

 

الاحتراف

لم يلبث السنباطي أن استقال من المعهد بعد 3 سنوات فقط، ليدخل عالم الاحتراف ملحّنا في شركة أوديون للأسطوانات، ويقدم ألحانا لكبار مطربي عصره مثل عبد الغني السيد ورجاء عبده.

تأثر بالمدرسة التقليدية في التلحين في البداية، ثم تأثر بأسلوب الموسيقار محمد عبد الوهاب وطريقته الحديثة في المقدمة الموسيقية، وأدخل آلة العود مع الأوركسترا الموسيقية.

 لقاء بأم كلثوم

يحكي السنباطي أنه التقى بأم كلثوم التي تكبره بـ5 سنوات أول مرة وهو في الـ12 من عمره في محطة القطار، عندما كان عائدا مع والده بعد الغناء في حفل زفاف، وكانت أم كلثوم تغني أيضا في حفل زفاف في القرية نفسها، والتقيا إذ كانت تجمع الصداقة والديهما، وتصافح الفتى المراهق مع أم كلثوم.

وبعد سنوات استمعت أم كلثوم لألحانه التي كانت ملء السمع والبصر في مصر، واتصلت به لتطلب التعاون معه، فحكى لها تفاصيل لقائهما الأول، لتضحك وتتذكر هذا اللقاء.

 

ونفي السنباطي، في حواره مع تلفزيون الكويت، الاتهام الذي يقول إن أم كلثوم تسببت في تأخر الموسيقى العربية، لانشغال الموسيقيين بجمال صوتها عن تطوير الموسيقى، مؤكدا أنها فتحت آفاقا كبيرة للغناء في مصر والعالم العربي، قائلا “أم كلثوم كانت فنانة ذكية وموهوبة، منحها الله موهبة استثنائية من الصعب أن تتكرر، وهي التي أسهمت في تطوير الموسيقى العربية، إذ قدمت كل ألوان الغناء، من ديني ورومانسي ووطني وغزلي”.

كان شريك النجاح لأهم أغاني أم كلثوم، إذ تشاركا معا في مسيرة الفن نحو 40 عاما، متفوقا مع شريك نجاحها الموسيقار محمد القصبجي، وجمع بين السنباطي وأم كلثوم نحو 282 لحنا، أهمها “أراك عصي الدمع”، و”لسه فاكر”، و”حيّرت قلبي معاك”، و”طوف وشوف”، و”هجرتك”، و”ليلة العيد”، كما لحن جميع القصائد التي غنّتها أم كلثوم لأمير الشعراء أحمد شوقي، ويعدّ النقاد أغنية “الأطلال”، كلمات الشاعر إبراهيم ناجي، من أفضل الأغاني العربية في القرن الـ20.

ولحّن لأم كلثوم أبرز أغانيها الوطنية مثل “النيل” عام 1949، و”مصر تتحدث عن نفسها” عام 1951، كما لحن أغنية “رسالة إلى جمال عبد الناصر” بعد وفاة الزعيم العربي، وهي من كلمات نزار قباني، كذلك قدم السنباطي أهم أغانيها  الدينية مثل “ولد الهدى” عام 1944، و”نهج البردة” عام 1946.

يحكي السنباطي للكاتب الكبير أنيس منصور، على صفحات جريدة الأهرام، أنه استغرق 3 ساعات فقط في تلحين “نهج البردة”، قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي الشهيرة في مديح النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد تأثر السنباطي بهذه الأغنية أكثر من أي أغنية أخرى وبكت أم كلثوم عند سماعها لحنه، يقول “لا أعرف كيف لحّنتها، وإنما والله على ما أقول شهيد فأنا لم ألحنها، وإنما أنا رددتها وراء صوت سماوي في داخلي”.

جوائز

لحّن السنباطي لكبار مطربي العصر مثل منيرة المهدية ومحمد عبد المطلب وهدى سلطان وميادة الحناوي، ليبلغ مجموع مؤلفاته نحو 534 لحنا، متعاونا مع 120 شاعرا.

كرّمه الرئيس جمال عبد الناصر بوسام الفنون عام 1964، ونال وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى من الرئيس السادات، فضلا عن جائزة الدولة التقديرية في الفنون والموسيقى، كما نال درجة الدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون عام 1977.

حصل على جائزة منظمة اليونسكو العالمية في الموسيقى لأنه “استطاع التعبير بلغته الموسيقية المشرقة الوضاءة عن مشاعر الشعب العربي وأفكاره وآماله في كل مكان بأصالة متناهية قلّما توافرت عند غيره، ولأنها رأت أنه الموسيقي المصري الوحيد الذى لم يتأثر بأي موسيقى أجنبية، واستطاع بموسيقاه التأثير في منطقة لها تاريخها الحضاري”، وفقا لجريدة الأهرام.

تجربة مع السينما

كانت له تجربة وحيدة في التمثيل، فقد شارك السنباطي في فيلم “حبيب قلبي” مع الفنانة هدى سلطان والمخرج حلمي رفلة، ولم يكرر هذه التجربة وقرر التركيز في التلحين.

يقول السنباطي إنه بالأساس ملحن، جرب التمثيل ولم يحترفه، كما جرب الغناء ولم يكمل فيه، “لم أجد نفسي في التمثيل، فاللحن هو عالمي”.

الوفاة

يحكي الشاعر فاروق جويدة، في مقال له بجريدة الأهرام، أن حاكما عربيا عرض علاج السنباطي قبل وفاته بأشهر على نفقته الخاصة في سويسرا، وطلب الموسيقار الكبير أن يتصل بالحاكم العربي ليشكره، لكن مدير مكتب الحاكم ردّ بأسلوب لم يعجب السنباطي، فقرر رفض دعوة السفر والعلاج، مفضلا أن يموت بكرامته وكبريائه -حسب جويدة- في العاشر من سبتمبر/أيلول 1981 بعد معاناة مع مرض حساسية الصدر.