“نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المئة الثامنة.. الطاعونُ الجارفُ الذي تَحَيَّفَ الأممَ وذهب بأهل الجيل…، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار، ودَرَسَت السُّبُل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل…؛ وكأنما نادى لسانُ الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة…، وكأنه خَلْقٌ جديد ونَشْأةٌ مُسْتَأنَفَة وعالَمٌ مُحْدَثٌ”!!

بالجُمل أعلاه؛ وصف المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- “الطاعون الأسود” الذي اجتاح عالم زمانه منتصف القرن الثامن الهجري/الـ14 الميلادي.

وفي وضع راهن يحاكي تلك الجائحة التاريخية؛ لزم الناس -في معظم أقطار العالم- بيوتهم حتى صار الزعماء السياسيون يتخاطبون منها في قممهم الجامعة، كما أنجز فيها موظفو المؤسسات الكبرى أعمالهم المتشعبة، وتلقى الطلاب -على مختلف مستويات تعليمهم- دروسهم وتكوينهم!

لقد حوصر العالم -ولا يزال مهددا بعودة الحصار- من عدوٍّ فاتك لم نكن نعرف شيئا عن طبيعته ومخططاته، ولا كيف نواجهه لأننا لا نراه كفاحا، ولا ندرك -حتى الآن- كيف سيبدو مستقبلنا بعد رحيله، إن كان سيرحل! كل ما نعرفه أن نلزم إجراءات التحرز منه حتى يأذن الله بتمام انكشاف جاحته هو وسلالاته المتحوّرة المتوالية.

ولعل أمثل ما يفعله الكاتب -في مثل هذه الأوقات- أن يُطمئن قارئه بأن هذه الحال ليست سابقةً تاريخيّة، وأن البشريّة مرّت بهذه الظروف فعانت أشدّ صنوف المعاناة، ثم زالت الغمّة وجرى نهر الحياة دفّاقا. وبرهانا على ذلك؛ سأعرض لك موجزًا عن الطواعين والأوبئة، وأحوال الناس معهما في تاريخنا الإسلامي، وكيف ساهمت في حياة أناس، وهلاك أناس، ونفع أناس!

تعريفات وفروق
يفسر الأطباء المعاصرون الطاعون بأنه بكتيريا تسمى “يرسينيا بيستيس” (Yersinia pestis) وتتكاثر في جوف البراغيث والحشرات الصغيرة كالقمل والبقّ، وتنتقل إلى الحيوانات المستأنسة كالقطط والفئران والكلاب والمواشي، ثم تنتقل منها إلى الإنسان.

وطريقة حدوث مرض الطاعون هي أن البكتيريا الطاعونية تتكاثر في جوف البراغيث مثلا، ثم تتسرب إلى مريئها فتسدّه فيورث ذلك لديها نهمة للدماء، فتطلبها من الحيوانات أو الناس فعندما تمتص منها تقيء فيها الدم الملوّث، فينتشر في الجسم ويحصل الطاعون الذي يتفشى بين الناس بالعدوى.

ومن حيث الفرق في الاستخدام الدلالي بين الطاعون والوباء؛ فقد ذهب القدماء من العلماء إلى أن الوباء هو كل مرض منتشر بما في ذلك الطاعون، لكن الأخير يتميّز بأعراضه الخاصّة. قال أبو الوليد الباجي (ت 474هـ/1081م) فيما نقله عنه ابن حجر (ت 852هـ/1448م) في كتابه ‘بذل الماعون في فضل الطاعون‘: “الطاعون مرض يعم الكثير من الناس -في جهة من الجهات- بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدًا بخلاف بقية الأوقات فتكون الأمراض مختلفة”.

أما القاضي عياض (ت 544هـ/1149م) -في شرحه لـ‘صحيح مسلم‘- فقد قال مبينا الفرق بينهما عند الأقدمين: “أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض؛ فسُمّيت طاعونًا لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا”، بينما يرجح محب الدين الطبري (ت 694هـ/1295م) -في ‘الرياض النضرة‘- أن “كل مرض عام -من خُرّاج أو غيره- يسمى طاعونا”.

ونحن نجد في كلامهم وصفا لثلاثة أنواع من الطاعون، مع عدم تحديدهم لطبيعتها: 1- الطاعون اللمفاوي (الدمّلي): وهو تورم العُقد اللمفاوية التي تمنح الجسم القدرة على مقاومة العدوى والتعافي منها إن حصلت. وهو المراد بقول ابن سينا (ت 428هـ/1038م) -في ‘القانون في الطب‘- عند وصفه الطاعون: “مادة سُمِّية تُحدث ورمًا قتّالًا، يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط”.

2- الطاعون الرئوي: يبدأ بالتهاب شُعَبي يتبعه فورًا استسقاء الرئتين (امتلاؤهما بالسائل)، ثم تحدث الوفاة خلال ثلاثة أيام أو أربعة. 3- طاعون تعفن الدم: وتغزو فيه البكتيريا تيار الدم فتحدث الوفاة قبل أن تبدو مظاهر الطاعون اللمفاوي أو الرئوي. ويشير إليه ابن سينا بقوله: “وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، يستحيل إلى جوهر سُمّي يُفسد العضو ويغيّر ما يليه، ويؤدي إلى القلب بكيفيّة رديئة، فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان”.

وفي التعريفات الطبية المعاصرة؛ جاء في ‘الموسوعة البريطانية‘ أن “الطاعون مصطلح كان يطلق قديما على أي مرض واسع الانتشار مسبب للموت الجماعي، لكنه الآن محصور في حُمّى معدية من نوع خاص تسببه البكتيريا العصوية التي ينقلها برغوث الفئران”. وأما الوباء فتعرّفه منظمة الصحة العالمية بأنه: “الجائحة التي تنتشر في جميع أنحاء العالم، أو على مساحة واسعة للغاية عابرةً للحدود الدولية، وعادة ما يؤثر على عدد كبير من الناس”.

سابقة إسرائيلية
لعل أول طاعون أو وباء عام ذكرته مصادرنا الإسلامية هو طاعون وقع في بني إسرائيل، بعد أن امتنعوا عن امتثال أوامر الله وبدّلوا كلماته. قال تعالى: {فبدّل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون}؛ (سورة البقرة/ الآية: 59). قال الطبري (ت 310هـ/922م) في تفسيره: “أهلكهم الطاعون”.

ويدل على هذا أيضًا ما رواه البخاري (ت 256هـ/870م) -في صحيحه- من أن أسامة بن زيد (ت 54هـ/675م) سأل النبي (ص) عن الطاعون، فقال: “الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ علَى طَائِفَةٍ مِن بَنِي إسْرَائِيلَ -أوْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ- فَإِذَا سَمِعْتُمْ به بأَرْضٍ فلا تَقْدَمُوا عليه، وإذَا وقَعَ بأَرْضٍ -وأَنْتُمْ بهَا- فلا تَخْرُجُوا فِرَارًا منه”. ويمكن أن يُفهم من هذا الحديث أن بكتيريا الطاعون ظلت بين حالتيْ كمون وظهور عبر الأعصر.

وبعد مجيء الإسلام؛ فشت الطواعين والأوبئة عبر عصور تاريخه المتطاولة فُشُوًّا ظاهرًا، لا سيما في عهد الدولة الأمويّة وفي دولة المماليك. ويدلنا على هذا الانتشار الواسع للأوبئة والطواعين عددُ الكتب المؤلفة في هذا الباب.

وقد رأيت كثيرًا من الباحثين يبدؤون ذكرَ مَن ألّف في هذا المجال بابن أبي الدنيا (ت 281هـ/893م) وكتابه ‘الطواعين‘، مع أن للفيلسوف الكِندي (ت 254هـ/868م) رسالة في الأبخرة المُصلِحة للجوّ من الأوباء. وقد أحصيت ما يزيد على 70 مؤلفًا في تاريخنا الإسلامي -مبتدئًا بالقرن الحادي عشر الهجري فما قبله- تتعلق كلها بالأوبئة والطواعين.

لم يسجل لنا أصحاب السيرة النبوية من الطواعين التي وقعت في حياة النبي (ص) إلا طاعونا وقع في فارس سنة 6هـ/628م، وسُمّي باسم ملكها شيرويه (ت 6هـ/628م). ثم وقع “طاعون عمواس” (= قرية فلسطينية كانت تقع على نحو 28 كم جنوب شرق يافا وهدمها المحتلون اليهود 1397هـ/1967م) سنة 18هـ/640م “فتفانى الناس”؛ حسب تعبير الطبري في تاريخه. وكان طاعونًا فتاكًا هلك فيه 25 ألفًا؛ كما يذكر الواقدي (ت 207هـ/822م). وقد مات فيه من كبار قادة الصحابة: أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل.

بيد أن البلاذري (ت 270هـ/883م) يشير -في ‘فتوح البدان‘- إلى طاعون عنيف سابق لطاعون عمواس حدث حوالي سنة 16هـ/638م في فارس، وكانت نتائجه -من المنظور الجيوسياسي- في مصلحة المسلمين الذين تقدموا حينها في فارس ففتحوا معظم حواضرها.

ونجد في ‘تاريخ دمشق‘ لابن عساكر (ت 571هـ/1175م) ذكرًا لهذا الطاعون، حيث ينقل عن أيوب السختياني (ت 131هـ/750م) قوله: “لم يكن طاعون أشد من ثلاثة طواعين: طاعون ازدجرد (= يزدجرد وهو ملك فارسي توفي 30هـ/651م)، وطاعون عمواس، والطاعون الجارف”؛ وسيأتي الكلام عن هذا الأخير.

وفي عام 24هـ/646م؛ وقع طاعون في مصر لا نعرف عنه سوى أنه أخذ خمسة أبناء للشاعر أبي ذؤيب الهذلي (ت 27هـ/649م) فأهدانا مرثيته البديعة لهم: “أمِنَ المنون وريْبها تتوجعُ؟!”.

وزعم ابن بطة العُكْبُري (ت 387هـ/998م) -في ‘الإبانة الكبرى‘- أن مصدر ذلك الطاعون قرية تسمى “داب” وقع فيها الطاعون، وكان معاوية أمير الشام (ت 60هـ/681م) فأراد إجلاء أهلها، ولكن أبا الدرداء (ت 32هـ/654م) عارضه قائلا: “كيف لك يا معاوية بأنفُسٍ قد حضرت آجالُها؟”، فامتدّ الطاعون إلى حمص ودمشق، فخرج معاوية عنها ووصل الوباء إلى مصر.

طواعين أمويّة
لم تتوقف الطواعين طوال دولة بني أمية؛ يقول ابن حجر -في كتابه السابق ذكره- مصورًا تعاقب الطواعين فيها: “لم تنقطع [الطواعين] في خلافة بني أمية، ثم خفّ الطاعون في الدولة العباسية”.

وقبل ابن حجر بقرون؛ لاحظ أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) -في ‘ثمار القلوب‘- أنه “لم تزل الشام كثيرة الطواعين حتى صارت تواريخ، وكانت تظهر بالشام ثم تمتد إلى العراق…، ولما وَلِيَ بنو العباس [الخلافة] انقطع الطاعون إلى أيام المقتدر (ت 320هـ/932م)”. وقد أدّت الطواعين المتعاقبة إلى إنهاك الدولة الأمية فساهمت في سقوطها على أيدي العباسيين.

ينقل المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ/1469م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- عن المؤرخ أبي الحسن المدائني (ت 225هـ/840م) أنه أحصى 15 طاعونا حتى سنة 131هـ/750م؛ ولكن الباحث أحمد العدوي تتبع -في كتابه ‘الطاعون في العصر الأموي‘- هذه الطواعين فوجدها عشرين طاعونًا، بمعدل طاعون في كل أربع سنوات ونصف سنة. كما بيّن ما ترتب على هذه الطواعين من تعجيل بنهاية الدولة الأموية ونجاح الثورة العباسية عليهم سنة 132هـ/751م.

إن أول ملمح نراه في تأثير الطاعون في الدولة الأموية هو هلاك رجالها القادة وشخصياتها السياسيّة المؤثرة، ممن يعزّز وجودهم بقاء الدولة؛ فقد أهلك الطاعون أمير الكوفة المغيرة بن شعبة (ت 50هـ/671م)، إذ أورد ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- رواية تفيد بأنه في سنة 49هـ/670م “وقع الطاعون بالكوفة فخرج منها المغيرة فارًّا، فلما ارتفع (= انتهى) الطاعون رجع إليها، فأصابه الطاعون فمات”!!

كما أهلك الطاعون أمير العراق زياد بن أبيه سنة 53هـ/674م؛ فالذهبي (ت 748هـ/1347م) يحكي لنا -في ‘سير أعلام النبلاء‘- أنه “بلغ ابنَ عمر (ت 73هـ/693م) أن زيادا كتب إلى معاوية: إني قد ضبطت العراق بيميني وشمالي فارغة، وسأله أن يوليه الحجاز. فقال ابن عمر: اللهم إنك إن تجعل في القتل كفارة فموتاً لابن سمية لا قتلا؛ فخرج في أصبعه طاعون فمات”.

وممن مات من رجال الدولة بسبب الطاعون وليُّ العهد أيوب بن سليمان بن عبد الملك (ت 96هـ/716م)، وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) الذي كان بمثابة المستشار لوالده. وقد نشطت الطواعين في العراق بعد سنة 60هـ/681م؛ ففي 64هـ/685م -أو 65هـ/686م على رواية- وقع طاعون في البصرة فهلك فيه خلق كثير، وانشغل الناس بدفن موتاهم حتى إن والي البصرة حينها عُبيد الله بن معمر التيمي (ت نحو 83هـ/703م) ماتت أمه فلم يجد من يقوم بحمل جنازتها “فاستأجر لها أربعة علوج فحملوها إلى حفرتها”؛ حسبما حكاه الطبري.

كما مات فيه هند بن هند بن أبي هالة ابنُ ربيب النبي الكريم (ص) وحفيد أم المؤمنين خديجة بنت خويلد (ت 3 ق.هـ/619م) رضوان الله عليها، ويقال إنه مات في ذلك اليوم 70 ألف إنسان فشُغل الناس بجنائزهم عن تشييعه، فنادت نادبتُه: “واهند بن هنداه وربيب رسول الله، فلم تبق جنازة إلا وتُركت وحُملت جنازته إعظامًا لرسول الله (ص)”؛ حسبما أورده عياض في ‘الشفا‘. وينقل ابن كثير أن رجلا “أدرك زمن [هذا] الطاعون قال: كنا نطوف في القبائل وندفن الموتى، فلما كثروا لم نَقْوَ على الدفن، فكنا ندخل الدار -وقد مات أهلها- فنسد بابها” عليهم!!

تأثيرات عميقة
ولم تمض خمس سنوات حتى جاء “طاعون مصعب بن الزبير” (ت 72هـ/692م). وبحسب ابن قتيبة (ت 276هـ/889م) في ‘المعارف‘؛ فقد كان هذا الطاعون الواقع بالبصرة عام 69هـ/689م أولَ “طاعون جارف” في الإسلام.

وقد جرّأ هذا الطاعونُ -بانتشاره المهلك في العراق والشام- الرومَ على غزو المسلمين في الشام وتهديد دولة عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)، حتى رأى أن يصالحهم ويدفع لهم جزية أسبوعية مقدارها 1000 دينار (= اليوم 170 ألف دولار أميركي تقريبا).

بيد أن حظّ معارضه مصعب بن الزبير كان أتعس منه، حيث كان فتك الطاعون في مقرّ إمارته بالبصرة رهيبًا؛ إذ روى المدائني -في كتابه ‘التعازي‘ وعنه نقله النووي (ت 676هـ/1267م) في ‘شرح صحيح مسلم‘- أنه كان يهلك به 70 ألفًا في اليوم الواحد.

وأورد التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) في ‘الذخائر والبصائر‘ خبرا يعكس مدى أثر هذا الطاعون في إعادة تشكيل تقاليد الناس الاجتماعية؛ فقال إنه: “قيل لداود بن رشيد (الخوارزمي الإمام الثقة المتوفى 239هـ/853م): لِمَ كره الناسُ أن يدخلوا بنسائهم في شوال؟ [فـ]ـقال: مات فيه بالطاعون الجارف تسعة عشر ألف عروس”!! ويذكر ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ/م) -في ‘الشعر والشعراء‘- أنه “لم يحضر الجمعة سوى سبعة رجال وامرأة، وعندما سأل ابن عامر إمام الجامع: أين الناس؟ ردت عليه امرأة: تحت التراب”!!

لقد كان الطاعون هذه المرة لمصلحة بني أمية؛ حيث أنهك معارضيهم الزبيريين، وهيّأ لعبد الملك أن يُلحق هزيمة ساحقة بمصعب بعد أن أكل الطاعون من جنده ما أكل. ثم لم يلبث الطاعون أن عاد إلى البصرة سنة 80هـ/700م لينطلق منها إلى الشام والحجاز واليمن، وكان البلاء فيه شديدا حتى قال ابن كثير إنه “كاد أن يفني الناس من شدته”، وعاود الروم استغلال الكارثة فهاجموا أنطاكية.

ويذكر لنا المبرّد (ت 286هـ/899م) -في كتابه ‘التعازي والمراثي‘- مقتطفاتٍ من فتك هذا الطاعون الجارف؛ فيقول: “هلك في ثلاثة أيام في كل يوم سبعون ألفاً. ومات لأنس بن مالك (ت 93هـ/713م) فيه ثلاثة وثمانون ابناً…، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة (ت 96هـ/716م) أربعون ابناً…، وأخبِرتُ أن الدار كانت تصبح وفيها خمسون، وتصبح الغد وليس فيها واحد”!

وفي عام 85هـ/705م ضرب طاعونٌ مصرَ فَفَرَّ واليها عبد العزيز بن مروان (ت 85هـ/705م) إلى حلوان تاركًا الفسطاط وقاصدا الصحراء، ولكن الموت أدركه فمات في الصعيد؛ وفق ما يرويه ابن عبد الحكم (ت 257هـ/871م) في ‘فتوح مصر وأخبارها‘.

ثم أعقبه “طاعون الأشراف” عام 86هـ/706م في البصرة وسُمِّي بذلك “لما مات فيه من الأشراف (= أعيان المجتمع)”؛ حسب النووي في ‘الأذكار‘. وكان الناس يتذمرون من اجتماع وطأة بلاء الوباء وقسوة حكم الحجاج (ت 95هـ/715م)، فيقولون وفق رواية ابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهرة‘: “لا يكون الطاعون والحجاج”!!

ثم أعقبه “طاعون الفتيات” عام 87هـ/707م الذي انطلق من الشام إلى العراق، وسُمي بالفتيات لكونه بدأ بهن، وفيه كانت تهلك الأسرة فلا يبقى منها أحد؛ كما يذكر ابن أبي الدنيا في ‘الاعتبار‘. وكان الناس يحفرون فيه قبورهم بأنفسهم ليأسهم من النجاة، حتى إن التابعي بشير بن كعب بن أبي الحميري حفر قبرًا لنفسه وظل يقرأ فيه القرآن حتى مات ودُفن فيه؛ كما في ترجمته من ‘تاريخ دمشق‘.

إجراءات احترازية
وقد ألجأت موجات الطاعون المتكررة الخلفاء الأمويين وأبناءهم إلى “الحجر الطوعي” لأنفسهم، بمحاولتهم الابتعاد عن الناس ولو بالخروج من عاصمتهم دمشق إلى البادية حيث العزلة والهواء النقي، وأصبحوا معروفين بذلك حتى إن البلاذري يقول في ‘أنساب الأشراف‘: “وكان الخلفاء وأبناء الخلفاء من بني أمية يتبدَّوْن (= يقصدون البادية) ويهربون من الطاعون، فينزلون البرِّية خارجا عن الناس”.

بل إن الخليفة هشام بن عبد الملك (ت 125هـ/744م) حاول أن ينقل عاصمة الخلافة الأموية من دمشق إلى الرصافة هربًا من الطواعين؛ وفي ذلك يقول الطبري -في تاريخه- إن هشاماً عندما أراد أن يبني الرصافة ليسكنها بدلا من دمشق، قيل له: “لا تخرج، فإن الخلفاء لا يُطعَنون (= يصابون بالطاعون)، ولم نرَ خليفةً طُعن؛ فقال: أتريدون أن تجرّبوا بي؟! فنزل الرصافة”.

واستمرت فورات الطاعون بين سنتيْ 114-119هـ/733-738م التي حصل فيها طاعون جارف بالبصرة. وفي عام 125هـ/744م؛ وقع وباء في الشام فألجأ بيت الحُكم إلى أن يعقدوا بيعة الخلافة ليزيد بن الوليد (ت 126هـ/745م) في البادية، ويقول الذهبي -في ‘السِّيَر‘- إنه “توفي يوم الأضحى بالطاعون”. وتشير بعض المصادر -بينها ‘الكامل في التاريخ‘ لابن الأثير (ت 630هـ/1233م)- إلى أن هذا الوباء مكث سبع سنين في الشام ومصر وشمال أفريقيا.

لقد عانت الخلافة الأموية موجات موت عاتية (6 طواعين جارفة و14 طاعونا أقل إفناء) أهلكت الحرث والنسل، وغيرت الخريطة الديموغرافية لسكان الحواضر والقرى لا سيما في العراق. فتحوّل سكان “سواد العراق” (= المناطق الزراعية بالجنوب) إلى الرعي بعد أن تفرقوا في البوادي وتركوا الزراعة والحواضر المعرَّضة للآفات، وانعكس هذا على الموارد الاقتصادية للدولة، ولم تغنِ محاولات الحجاج بن يوسف لإعادتهم قسرا وتوطينهم في قراهم.

فقد تراجعت مداخيل “سواد العراق” بنسبة 60% مقارنة بما كانت عليه في خلافة عمر بن الخطاب (ت 23هـ/645م)، وهو -طبقا لما أحصاه عمر بن عبد العزيز ونقله عنه البلاذري في ‘فتوح البلدان‘- مئة مليون درهم، وأما ما جباه الحجاج بعد الطاعون فهو أربعون مليون درهم، بل ظل يتناقص حتى قال اليعقوبي (ت 284هـ/897م) -في تاريخه- إن الحجاج مات وقد صار المبلغ “خمسة وعشرين ألف ألف درهم”.

وقد أدت لاحقا سياساتُ الحجاج بشأن توطين الزنوج في “سواد العراق” إلى أحداث سياسية كبرى، مثل “ثورة الزنج” المدمِّرة التي استمرت 15 عامًا بين 255-270هـ/869-883م. أما على المستوى العسكري؛ فقد تراجع عدد الجند بشكل رهيب في سنوات الطواعين، وتقدر نسبة الجنود المثبتين في دواوين الجند بالعراق بـ10% فقط مما كانوا عليه في عهد معاوية؛ حسبما لاحظه الباحث أحمد العدوي.

ومن هنا نفهم الأسباب التي اضطرت الدولة الأموية إلى التجنيد القسري للفلاحين ولأهل الذمة، كما يذكر بطريرك أنطاكية ديونيسيوس التلمحري (ت 230هـ/845م) في كتابه ‘تاريخ الأزمان‘

تحول تاريخي
لقد كانت مواتاة الزمان لبني العباس عجيبة؛ فقد طاوعت الظروف دولتهم الناشئة وأعانتها على القضاء على دولة عظيمة تمتد بين الصين والأندلس. وكما استغل المسلمون -بعد القادسية- “طاعون يزدجرد” فتعمّقوا في أراضي الدولة الساسانية، موسعين حدود دولتهم الجديدة على أنقاض مملكة الساسانيين؛ أسعف الزمان الثوار العباسيين حين اتفق لهم أن يأتي إعلان ثورتهم بين طاعونين رهيبين عصفا بخلافة بني أمية: “طاعون غُراب” -“وغراب رجل من [قبيلة] الرباب” كما يقول ابن العربي المالكي (ت 543هـ/1148م) في شرحه للموطأ- سنة 127هـ/746م، وطاعون مسلم بن قتيبة سنة 131هـ/750م.

وقد روى المدائني أنه في طاعون 131هـ/750م كان يُحصى كل يوم في سكة المربد ألف جنازة، وأباد الطاعون سكان البصرة أو كاد يبيدهم؛ حسب ما يذكره ابن الملقِّن (ت 804هـ/1399م). وطبقا لرواية أوردها الطبري في تاريخه؛ فإن الأمويين استغلوا جائحة طاعون 131هـ/750م فقتلوا بالسمّ إبراهيم الإمام بن محمد بن علي -وهو جد خلفاء بني العباس- في سجنه عندهم بحرّان، ثم أعلنوا موته بهذا الطاعون.

ونلاحظ عموما في عصر الأمويين أن الطواعين التي لم تبدأ من الشام كانت تنطلق من البصرة، وذلك لاتصالها بموانئ الهند والصين وما قد يصاحب السفن القادمة منهما من بضائع ملوثة وأشخاص ناقلين للأمراض.

ووفقاً لكتاب بعنوان “تاريخ الزوقنيني” منحول للبطريرك ديونيسيوس التلمحري؛ فقد سجل راهب “دير زقنين” في ديار بكر آثار طاعون سنة 132هـ/751م على الدولة الأموية، فوصف -بجُمل مختصرة- الصراع السياسي الدائر حينها والذي كانت تصله أخباره، متحدثا عن “الكارثة التي أحالت المدن إلى معصرة غاصّة بالأرجل، تفري ساكنيها دونما رحمة أو شفقة كأنهم العنب اللذيذ…، يُدفن في النعش الواحد جثتان أو ثلاثة أو أربعة أطفال…، الجثث في كل مكان على الأرصفة والطرقات”؛ ثم يختم بجملة معبّرة تقول إنه رغم كل ذلك: “لم يكفّ العرب أبدًا عن الشجار وتبادل الأذى”!!

لم تؤد الطواعين إلى زوالِ دولٍ فحسب، وإنما قطعت أيضا نسل شخصيات مركزية في حركة فتوح الإسلام؛ فالمؤرخ النسابة ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ/1065م) يفيدنا -في ‘جمهرة أنساب العرب‘- بأنه “كثُر وَلَدُ (= أولاد) خالد بن الوليد (ت 21هـ/634م) حتى بلغوا نحو أربعين رجلا، وكانوا كلهم بالشام، ثم انقرضوا كلهم -في طاعون وقع- فلم يبق لأحد منهم عَقِبٌ”!

وبقيت فورات الطواعين تتكرر حتى سنة 136هـ/757م عندما توقفت في أوائل خلافة المنصور العباسي (ت 158هـ/779م)، فكان المنصور يمتنّ على الناس بأن رفع الله عنهم الطواعين بسبب بركة خلافة أهل بيته؛ فقد جاء عند الثعالبي: “قال المنصور يوما لأبي بكر بن عياش (ت 193هـ/809م): من بركتنا أن رُفِع عنكم الطاعون! فقال (ابن عياش): لم يكن الله ليجمعكم علينا والطاعون”!

وما رفض الإمام ابن عياش التصديق به يبدو أنه وجد رواجا عند الجاحظ (ت 255هـ/869م)، فقال -في ‘رسالة الحنين إلى الأوطان‘- إن العباسيين: “كان أول بركتهم أن الله تعالى رفع الطواعين والموتان الجارف، فإنهم كانوا يُحصدون حصدا بعد حصد”!!

طواعين عباسية
قلّ الطاعون إذن في بداية عهد بني العباس فأتاح لهم ذلك -ضمن عوامل أخرى- توطيد خلافتهم. لكن الطواعين ظلت متواصلة وإن بوتيرة أبطأ؛ ومن أهمها طاعون عجيب وقع عام 346هـ/957م فكثر فيه الموت بالفجأة، حتى إن أحد القضاة لبس ثيابه ليخرج إلى مجلس القضاء فأصيب بالطاعون فمات وهو يلبس أحد خُفّيْه؛ حسب ابن حجر في ‘بذل الماعون‘. ووقع طاعون سنة 452هـ/1061م في الحجاز واليمن حتى خربت قرى كثيرة فلم تعمر بعد ذلك، وصار من يدخلها يهلك من ساعته!

ونقل ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘ ضمن حوادث عام 449هـ/1058م- ورود كتاب/رسالة من مدينة بخارى (تقع اليوم بدولة أوزبكستان) بأخبار طاعون مات فيه 1.6 مليون نسمة حتى لحظة كتابة ذلك الكتاب!! ثم انتقل إلى أذربيجان وفارس والعراق، فكانوا يدفنون الناس في مقابر جماعية. وكانت أعراضه غريبة؛ إذ يخرج من فم المصاب به قِطع دم أو دود فيموت. وكان الأطفال والنساء والشباب يموتون فيه دون الشيوخ، ولم يمت من العساكر والشيوخ إلا القليل!! حسب قول ابن حجر في ‘بذل الماعون‘.

ويروي سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- أن الطاعون دخل دمشق سنة 469هـ/1077م وكان فيها نحو خمسمئة ألف شخص، فلم يبق منهم سوى ثلاثة آلاف، وكان من جملتهم 240 خبازًا فبقي منهم اثنان فقط!! وفي 478هـ/1085م وقع طاعون في العراق ثم عمّ الدنيا، حتى كان أهل الدرب (= حي سكني له منفذ واحد) يموتون فيُسَدّ الدرب عليهم!!

بعد تراجع وتيرة حدوث الطواعين في القرون الأولى من خلافة بني العباس؛ عاد لها نشاطها المكثف في العهد المملوكي بالشام ومصر والحجاز، فكانت تتكرر بمعدل طاعون كل 17 عامًا. ويبدو للمتتبع لطواعين العصر الوسيط أن حلب والإسكندرية كانتا بؤرتيْن لانتشار الأوبئة والطواعين، ولعل مردّ ذلك المكانة المركزية التي تبوأتها المدينتان في التجارة الدولية، وخاصة مع الأوروبيين.

فقد كانت حلب مركزًا لطواعين أعوام: 787، 826، 841هـ/1385، 1423، 1437م، والإسكندرية بؤرة لطواعين أعوام: 782 و788 و790 و873هـ/1380، 1386، 1388، 1468م؛ حسبما جاء في رسالة دكتوراه للباحث بلقاسم الطبابي بعنوان ‘الموت بمصر والشام في العهد المملوكي‘.

وهذا المؤرخ والشاعر ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) يصف -في رسالته ‘النبا عن الوبا‘- طاعون 749هـ/1348م الذي قضى فيه نحبه، ويرسم لنا خريطة حركة الوباء؛ فنجد أنه ينتقل مع خطوط التجارة في البحر والبر، ويذكر تخطّي الطاعون لمعرة النعمان التي كان يسكنها هو، فيقول: “ثم دخل معرة النعمان فقال لها: أنت مني في أمان، حماة تكفي في تعذيبك، فلا حاجة لي بك:
وما الذي يصنع الطاعونُ في بلد ** في كل يوم له بالظلم طاعون”؟! فما أحرى شعوب العرب المنكوبة اليوم أن تردد هذا البيت في مواجهة طاعون كورونا وطاغوت السلاطين!

كما يصف ابن الوردي العلاجات المتخذة لمواجهة هذا الوباء، ومنها: الطين الأرمني، وتبخير البيوت بالعنبر والكافور والصندل، والتختم بالياقوت، وأكل البقل والخل والطحينة، والإقلال من الأمراق والفاكهة. ثم وقع الطاعون الأسود عام 833هـ/1430م الذي كان ابن حجر شاهد عِيان عليه، فوصفه -في ‘بذل الماعون‘- بأنه “أوسع من هذه الطواعين كلها وأفظعها، ولم يقع بالقاهرة ومصر -بعد الطاعون العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمئة- نظيرُ هذا الطاعون”.

ويسجل لنا ابن حجر -وهو الخبير بالطواعين لكثرة ما شاهده منها وعاناه من مصائبها في أهل بيته- أن طاعون عام 833هـ/1430م كان مباينًا لما قبله من الطواعين في أشياء كثيرة؛ منها التوقيت حيث “وقع في الشتاء وارتفع في فصل الربيع، وكانت الطواعين تقع في فصل الربيع وترتفع في أوائل الصيف”؛ ومنها أن “غالب من كان يموت بالطاعون يغيب عقله، وهذا يموت المطعون وهو يعقل”!